التكامل المغاربي المفقود: هل يفتح الحوار بوابة التنمية الإقليمية

علي قاسم

المغرب العربي، الذي يضم المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، يمتلك ثروات طبيعية هائلة وإمكانات بشرية واعدة، لكنه يظل الأقل اندماجا اقتصاديا على مستوى العالم. يعود هذا الواقع المؤسف إلى خلافات سياسية متجذرة، خاصة موقف الجزائر من قضية الصحراء المغربية ودعمها لجبهة بوليساريو، ما أدى إلى تجميد اتحاد المغرب العربي منذ تأسيسه عام 1989، وحرم أكثر من 100 مليون نسمة من فرص تنموية كان يمكن أن تحول المنطقة إلى قوة اقتصادية إقليمية.
اتحاد المغرب العربي أُسس في مراكش عام 1989 بهدف تحقيق تكامل اقتصادي وسياسي بين دول المنطقة. لكن الخلاف حول الصحراء المغربية، وتحديدا دعم الجزائر لجبهة بوليساريو التي تأسست عام 1973 بدعم من معمر القذافي، أوقف هذا الحلم. الجزائر التي ترى في دعم بوليساريو جزءا من عقيدتها السياسية، أغلقت حدودها مع المغرب عام 1994، وقطعت العلاقات الدبلوماسية عام 2021، ما أعاق حركة الأفراد والسلع ورؤوس الأموال. هذا الجمود حال دون استفادة المنطقة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي بين أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء.
إحصاءات منظمة التجارة العالمية تُظهر أن التجارة البينية في المغرب العربي لا تتجاوز 2 في المئة من إجمالي المبادلات الخارجية، مقارنة بـ16 في المئة في أفريقيا و60 في المئة في الاتحاد الأوروبي. وقدرت دراسة للبنك الدولي عام 2017 أن الاندماج الاقتصادي الكامل قد يرفع الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة إلى 360 مليار دولار، بمتوسط دخل للفرد يصل إلى 4000 دولار اسميّا و12000 دولار بتعادل القوة الشرائية. هذا يضاهي اقتصادات مثل جنوب أفريقيا أو الإمارات، ويفتح سوقا إقليمية تضم 100 مليون مستهلك.
الموارد الطبيعية تدعم هذا الطموح: تمتلك الجزائر احتياطيات غاز طبيعي بـ4.5 تريليون متر مكعب، ويقود المغرب التحول إلى الطاقة المتجددة بنسبة 40 في المئة من إنتاجه الكهربائي، وتصدر تونس زيت الزيتون بقيمة 300 مليون دولار سنويا إلى إيطاليا، وتتمتع موريتانيا بثروات معدنية وسمكية وفيرة. لكن غياب التكامل يحد من استغلال هذه الموارد، إذ تعتمد الدول على أسواق خارجية بدلاً من السوق الإقليمية.
ورغم التوترات يواصل المغرب، بقيادة الملك محمد السادس، تقديم مبادرات للتكامل الإقليمي. في خطابه بمناسبة عيد العرش في 29 يوليو 2025 جدد دعوته للحوار مع الجزائر، مؤكدا أن “الشعب الجزائري شقيق، تجمعه بالشعب المغربي أواصر اللغة والدين والمصير المشترك.” هذه الدعوة، التي بدأت عام 2018، تهدف إلى فتح الحدود المغلقة منذ 1994 وإحياء اتحاد المغرب العربي كإطار للتنمية.
قدم المغرب مبادرة الولوج إلى المحيط الأطلسي عام 2023، التي تتيح لدول الساحل، مثل مالي والنيجر، الوصول إلى ميناء الداخلة الأطلسي، ما يعزز التجارة والتنمية. كان يمكن للجزائر أن تستفيد لوجستيّا من هذه المبادرة، خاصة مع ميناء طنجة المتوسط، أكبر ميناء أفريقي بطاقة 9 ملايين حاوية سنويا. لكن الموقف الجزائري المتشدد حال دون ذلك.
نجاحات المغرب الدبلوماسية في قضية الصحراء، بما في ذلك اعتراف الولايات المتحدة (2020) وفرنسا (2024) والمملكة المتحدة والبرتغال بمبادرة الحكم الذاتي، عززت موقفه. رغم ذلك يحافظ الملك محمد السادس على نهج الصبر الاستراتيجي، داعيا إلى “حوار أخوي” يتجاوز الخلافات ويحترم السيادة الوطنية.
يعكس الموقف الجزائري، المتجذر في دعم جبهة بوليساريو منذ السبعينات، رؤية ترى المغرب خصما استراتيجيا. أكد القذافي، الذي دعم تأسيس بوليساريو، لاحقاً أن هدفه كان طرد الاستعمار الإسباني وليس إقامة دولة مستقلة. رغم ذلك حولت الجزائر هذا الدعم إلى عقيدة سياسية، متجاهلة الاعتراف الدولي المتزايد بسيادة المغرب على صحرائه. وكلف قطع العلاقات عام 2021 وإغلاق أنبوب الغاز المغاربي – الأوروبي (GME) المنطقة خسائر اقتصادية كبيرة، إذ كان الأنبوب ينقل 8 مليارات متر مكعب من الغاز سنويا إلى أوروبا.
التعنت يعزز سردية “المظلومية” في الجزائر، لكنه يحرم شعبها من فرص التنمية. على سبيل المثال، لو تم تفعيل التكامل الاقتصادي لاستفادت الجزائر من الاستثمارات الأوروبية في خطة ماتي الإيطالية، التي خصصت 5.5 مليار يورو لدعم التنمية في أفريقيا، بما في ذلك مشروع “الماد” للطاقة بين تونس وإيطاليا.
إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر لم يؤثر على التجارة فحسب، بل قطع الروابط الإنسانية. تعاني العائلات المشتركة على الحدود من الانفصال، ويواجه الشباب البطالة (تصل إلى 30 في المئة في تونس والجزائر) والهجرة غير النظامية. في 2023 غادر حوالي 45000 مهاجر تونس عبر “قوارب الموت” إلى إيطاليا، وفقا لتقارير الاتحاد الأوروبي. يتناقض هذا مع التجانس الثقافي واللغوي الذي يجمع شعوب المغرب العربي، والذي كان يمكن أن يكون أساسا لتكتل إقليمي قوي.
تاريخيّا كانت تونس “مطمورة روما”، تُصدر الحبوب وزيت الزيتون إلى إيطاليا، بينما كانت الجزائر مركزا تجاريا في العصر العثماني. اليوم، يمكن للمغرب العربي أن يستلهم هذا الإرث ليصبح مركزا للطاقة المتجددة والزراعة والتكنولوجيا. على سبيل المثال يمكن لمشروع “الماد” بين تونس وإيطاليا أن يمتد ليشمل الجزائر والمغرب، ما يخلق شبكة طاقة إقليمية. في الزراعة تصدر تونس 200000 طن من زيت الزيتون سنويا، بينما يمكن للمغرب وموريتانيا دعم الأمن الغذائي عبر الاستثمار في الزراعة المستدامة. ولوجستيا يمكن لميناء طنجة المتوسط أن يكون بوابة لدول الساحل إذا انضمت الجزائر إلى مبادرة الولوج الأطلسي.
دعوة الملك محمد السادس للحوار تهدف إلى رفع الحرج عن النظام الجزائري، وتمهد أمامه الطريق لتراجع مشرف عن موقفه. وتدعم هذه الدعوة ضغوط دولية، مثل اعتراف 47 دولة بمبادرة الحكم الذاتي، وتحولات إقليمية مثل انضمام دول الساحل إلى مبادرة المغرب.
إحياء اتحاد المغرب العربي يتطلب فتح الحدود لتسهيل التجارة والتواصل الإنساني، وتفعيل المؤسسات لإخراج الاتحاد -بمؤسساته الاقتصادية- من الأزمة التي سُجن داخلها، وإحياء شراكات دولية، والاستفادة من مبادرات مثل خطة ماتي الإيطالية ومذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي (2023) التي قدمت 127 مليون يورو لدعم تونس.
المغرب العربي يملك من الإمكانات ما يتيح له أن يصبح قوة اقتصادية تنافس على المستوى العالمي، لكن الخلافات السياسية، خاصة حول الصحراء، تعيق هذا الحلم. ويقدم المغرب نموذجا للقيادة الحكيمة عبر دعوات الحوار والمبادرات التنموية، بينما يبقى السؤال المعضلة: هل تستجيب الجزائر لهذه اليد الممدودة، أم ستظل أسيرة عقيدة عفا عليها الزمن؟
الفرصة الاقتصادية ليست مجرد أرقام، بل حياة أفضل لأجيال تتطلع إلى مستقبل مشترك.

الكاتب : علي قاسم - بتاريخ : 05/08/2025