الحاجة إلى دينامية جديدة في برامج ومعاهد التعليم الموسيقي
إهمال التراث الموسيقي المغربي يضعف الهوية الثقافية
الحديث مع موسيقار مغربي وعازف مبرز يجوب العالم ولا يتوقف عن التجريب والبحث في موسيقى الإثنيات .. فيه كثير من المتعة المهنية والاستفادة العالمة الدقيقة في مجال لا يقتحمه إلا الراسخون في علم الموسيقى وتاريخها ..أن تحاور مثل هذا المغربي، يلزمك استدعاء كل الذخيرة المعرفية حول الأنماط الموسيقية ومفاعيل الزمان فيها..التطويح والتلويح بكل الأسئلة المسكوت عنها جهلا أو نكاية ..لعل في هذه الدردشة الصحفية تفاصيل قالها العازف» عبد الحق وردي» تسائل الوضع الموسيقي في المغرب في جوانب محددة لا تدعي الإحاطة بكل الإشكالات بقدر ما حاولت شحذ السؤال ..
o o نفتتح لقاءنا الصحفي هذا بمفهوم آخذ في التداول، «الصناعة الثقافية»، مفهوم اقتصادي مرتبط بالتجاري الربحي تسرب للخطاب التواصلي..هل يتعارض هذا مع ما هو فكري وتاريخي، أو سنصبح قريبا أمام نوع من التسليع الثقافي والفني مع ما يرافق ذلك من تسطيح وابتذال ؟؟
n n تطور التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي وتطور المنصات الرقمية، فسح المجال للموسيقى بشكل عام كي تستفيد من هذا التطور الكبير والمتسارع. وهذا أتاح للعاملين في الموسيقى التقليدية فرصة كبيرة لتقديم تسجيلاتهم كمنتوج للبيع من أجل الاستماع، في ظل غياب الأشكال القديمة كالكاسيت والأقراص المدمجة.
وبالتالي، فإن مفهوم الصناعة الثقافية سيساهم في تمويل وحماية التراث والرفع من قيمته ومن قيمة العاملين فيه. هناك تجارب محترمة سبقتنا جعلت من متاحفها قبلة للزوار وتساهم في اقتصاد بلدها، كذلك دول أخرى كبولندا جعلت من ملابس وبيانو وفنجان وكتابات موسيقية للكبير «شوبان» محجا للزوار من كل أنحاء العالم.
بل هذه الأشكال من الصناعة الثقافية هي تكريم جميل لمبدعي البلد، على اعتبار أن كل بلد يحتاج إلى أساتذته وأطبائه ومهندسيه وكذلك فنانيه…
o o في المغرب لدينا تنوع ثقافي وفني كبير وعميق ، أشكال تعبيرية موسيقية مرت ولم يتبق إلا النزر القليل منها، تبدو الضرورة الملحة لحماية المخزون الموسيقي المغربي قبل فوات الأوان ؟؟
n n إهمال التراث الموسيقي وعدم حمايته بشكل كافٍ، وعدم إنجاز تسجيلات مفصلة لشيوخ معروفين بخبرتهم وضبطهم لجزئيات الأنماط الموسيقية المغربية، سيضيع علينا الكثير من الأسرار الخاصة بتراثنا.
بالإضافة إلى التحولات التي يعيشها المجتمع المغربي بفعل التأثير الخارجي وشبكات التواصل الاجتماعي، وأيضًا الممارسة الخاطئة للتراث بكل أشكاله، أصبح لزامًا علينا حماية هويتنا الثقافية من الاستلاب والتشويه.
o o هنالك من الأصوات من تعمل على تحقير تراثنا والنظر إليه بدونية مقيتة..؟؟
n n تراثنا هو إرث الأجداد، وهو ما يميزنا عن الآخر، وما يمنحنا خصوصية في عالم أصبح متشابهاً، كذلك يوفر لنا أرضية للإبداع والتميز.
فالتصالح مع التراث والهوية الثقافية يعني تصالحًا مع الذات، وربط العلاقة مع الماضي بالفخر والاعتزاز.
o o نعرج على معطى ونحن ندردش في حياتنا الموسيقية والفنية معك الأستاذ وردي ..الكتابة الموسيقية و تقوية الجانب الفكري..تصور تنادي به في كتاباتك ومداخلاتك الأكاديمية، نبغي مزيدا من الشرح والتشريح..؟؟
n n من حسنات الكتابة الموسيقية والتدوين حماية النصوص الموسيقية من الضياع والاندثار، وتمكين الدارسين والأساتذة والباحثين من عزف ودراسة الجمل الموسيقية، والوقوف على أساليب الزخرفة والتعبير عند كل الشيوخ الممارسين للعيطة مثلاً أو أي شكل موسيقي آخر.
تساهم الكتابة الموسيقية في تحويل قيمة الأنماط الموسيقية التقليدية الشفاهية إلى أشكال موسيقية راقية وسهلة الفهم، ومن ثم ستساهم الكتابة في تغيير الفكر الموسيقي، والوعي بقيمة التراث الموسيقي كوسيلة للتعبير والتماسك الاجتماعي، ومرآة تعكس الإبداع المغربي في فترة من تاريخه.
o o عطفا على ما سبق ..معاهد الموسيقى في المغرب على قلتها وضعف إمكانياتها ومواردها، لا تهتم بكل الأنماط الموسيقية..تكاد تغرق في الكلاسيكي والغربي .. باستثناء الأندلسي و الملحون..وهذان النمطان يتعامل معهما كحفظ..ليس إلا ..؟؟
n n هذه حقيقة ثابتة في المعاهد الموسيقية: الموسيقى الأندلسية والملحون أنماط موسيقية مهمة في تكوين الهوية المغربية، استفادت من البحث والتوثيق والتحقيق والاستمرارية من خلال المتخرجين من المعاهد الموسيقية.
لكن العيطة وباقي الأنماط غير مدرجة في التعليم الفني بالمعاهد الموسيقية، وهي تشكل أركانًا أساسية في الموروث الموسيقي المغربي، ولم تستفد من المعاهد الموسيقية رغم ضعفها على مستوى البحث والتوثيق.
إذا راجعنا المشاريع الموسيقية التي تعنى بالموسيقى الأندلسية والملحون على مستوى المغرب، سنجد أفكارًا ومشاريع موسيقية عادية، لا تحمل تجديدًا ولا تضمن الامتداد والاندماج مع موسيقى الآخر، باستثناء تجارب جد محدودة.
في اعتقادي، من اللازم خلق دينامية جديدة في برامج التعليم الموسيقي بالمؤسسات الفنية المغربية.
o o دائما ونحن نتجول بين المنجز والأعطاب في مشهدنا الموسيقي..نلاحظ قلة الأستوديوهات المحترفة المنضبطة للمعايير العالمية..غياب مدارس متخصصة في الإنتاج..لو شئنا استعارة مفهوم «الصناعة « ..هل على الدولة مسؤولية الإنجاز أم الأمر يوكل للقطاع الخاص كما في تجارب دولية؟؟
n n المغرب بلد صاعد يسعى إلى التقدم في عدة مجالات، رغم الكثير من المعيقات والمطبات. لكن في المجال الفني، لا زلنا نفتقر إلى بنية قوية تساهم في خلق صناعة ثقافية، وتحسين أوضاع الفنانين اجتماعيًا، ورفع قيمة الفن داخل المملكة، والمساهمة في الاقتصاد بشكل محترم.
التجارب التي سبقتنا، سواء في أوروبا أو آسيا، كان للقطاع الخاص دور كبير فيها في خلق مقاولات صغرى ومتوسطة تشتغل في الفن والثقافة، وتستفيد من دعم الدولة من خلال إعفاء ضريبي كلي أو جزئي. هكذا حققت تقدمًا محترمًا اقتصاديًا، وعززت الحفاظ والترويج لتراثها الثقافي والفني.
o o نصل اللحظة لموضوع مهم..العيطة ..لها قواسم مشتركة مع موسيقى الأطلسي وشمال الضفة..لا نعلمها..غياب البحث الموسيقي يعطينا جهلا بأنماط موسيقية مثل العيطة.. في أمريكا اللاتينية أنماط وإيقاعات وتعبيرات مغيبة..نريد تفاصيل ضافية..؟؟
n n تحمل العيطة مقومات موسيقية تؤهلها للاندماج مع أنماط موسيقية أخرى، سواء من ما وراء الأطلسي أو من الضفة الشمالية. فالعيطة خطاب موسيقي يتقاطع مع خطابات موسيقية أخرى رغم اختلاف الجغرافيا، مما يشكل تكاملاً، على اعتبار أن الإنسان المغربي لم يكن مستقراً، وكان دائم الترحال والتنقل، ما جعله مؤثراً في العديد من الثقافات العالمية.
غياب البحث الموسيقي الجاد والمعرفة الملمة بالتاريخ جعل الاتصال منقطعاً بين العيطة وبين شبيهها من الأنماط الموسيقية في العالم، إيقاعاً وأنغاماً وصناعة للآلات في بعض الأحيان.
في أمريكا اللاتينية، المكسيك وأمريكا الجنوبية، وخاصة الشيلي على سبيل المثال، هناك إيقاعات وجمل موسيقية، وكذلك أساليب تعبير، تخلق صدمة كبيرة لدى المستمع المغربي أو الشيلي أو المكسيكي.
فالقواسم المشتركة المتعددة والمتنوعة تعكس التأثير والتأثر الثقافي الذي خضعت له هذه البلدان بعد سقوط الأندلس، ودور المغرب أثناء الهجرة إلى هذه الجغرافيا المكتشفة آنذاك.
لا يسعني الحديث للتفصيل في التشابه على مستوى الرقصات التقليدية والموسيقى والإيقاعات وطرق الغناء، إلى التشابه كذلك في نظام السقي والفلاحة التي تتطابق مع نفس النظام الفلاحي في مناطق درعة والجنوب الشرق
ي من المغرب.
o o هذا يحيل على التشابه بين نمط العيطة في بعض مناطق إسبانيا وفرنسا مع المغرب…كيف تشرح هذا الأمر..؟؟
n n كان تاريخ المغرب مرتبطًا بإسبانيا وفرنسا من خلال الأندلس والتأثير الكبير الذي لعبته المملكة الشريفة في استقرار الحكم بالضفة الشمالية، وامتداده إلى بعض الأراضي الفرنسية عبر التأثير الأمازيغي والعربي.
ولا يخفى على أي باحث في التراث الموسيقي العالمي التشابه الكبير في الموسيقى التقليدية بين دول الجوار.
ففي شمال إسبانيا، على سبيل المثال، توجد رقصة «الخوطا»، وهي نمط موسيقي تقليدي يجمع بين الرقص والموسيقى، ويتقاسم مجموعة من النقاط مع العيطة وأنماط أخرى من التراث الموسيقي المغربي، وذلك باعتبار أن «الخوطا الإسبانية» هي من ابتكار «ابن خوتا» العربي في القرن الثاني عشر.
وينطبق الحال كذلك على فرنسا التي تتوفر على مجموعة من الأنماط الموسيقية التقليدية على امتداد خريطتها، والتي تتقاطع مع العيطة على مستوى الإيقاع والموسيقى، وكذلك المتون التي تتغنى بالفلاحة والمواسم والحرب والسلم، وتعكس جانبًا كبيرًا من حياة الناس
o o يلاحظ على العديد من أساتذة الموسيقى في المغرب أنهم يستعرون ويتجاهلون العيطة.. وهو جهل بالتراث وبمكون من مكونات هويتنا.. كلام صادم..؟؟
n n التشويه الذي تعرضت له الثقافة الشعبية عموماً، والعيطة خصوصاً، جعل الكثير من المغاربة وأساتذة الموسيقى يتعاملون مع العيطة كنمط موسيقي يُستخدم فقط في الأعراس والمناسبات المغربية.
كما أن عدم احتضان المعاهد الموسيقية لهذا الموروث الموسيقي جعل أساتذة قسم التكوين الشرقي لا يعطون أهمية لهذا النمط، بل ينظرون إليه كموسيقى دون المستوى ومرتبطة بطبقة الفقراء والأميين من المجتمع المغربي.
تدنّي المستوى الفكري في النسيج الاجتماعي المغربي، بمن فيهم الأساتذة الموسيقيين، جعلهم في قطيعة على مستوى التدوين الموسيقي والبحث والتنقيب في الذاكرة الموسيقية الشعبية المغربية.
o o عودة أساتذة الموسيقى للمصالحة مع العيطة…هي فكرة كبيرة هل لك أن تتوسع فيها..؟؟
n n لا يخفى على أي مهتم بالتراث المغربي، وخصوصا العيطة أو الفنون الشعبية عموما، تقصير أساتذة المعاهد الموسيقية في الاهتمام بهذا النمط من الموسيقى المغربية، نتيجة تراكمات ثقافية واجتماعية تنظر إلى هذا الموروث نظرة دونية ولا تعطيه قيمته الفنية والجمالية التي تناسب تاريخه وحمولته الثقافية. فالمعاهد الموسيقية يجب أن تحتضن جميع الأنماط الموسيقية التي تعكس الهوية المغربية وتساهم في الرفع من قيمتها كشكل من المصالحة وإعادة الاعتبار..
o o ضرورة تدريس العيطة على المستوى الوطني..التكوين والحماية والاستمرارية لمنح هوية وخصوصية عالمية….يبدو أنك تحمل تصورا عميقا..نريد توسعا في هذه الفكرة ؟؟
n n يجب أولا تدريس العيطة ضمن مجالها الجغرافي أي بأسفي، لقرب الشيوخ والعارفين بأسرار العيطة من المعهد الموسيقي، ومن ثم توسيع هذه الفكرة في معاهد موسيقية بمدن تعتبر العيطة فيها إرثا محليا، وهكذا سنضمن الحفاظ على هذا الموروث الموسيقي الغني والجميل.
إذا راجعنا عددا كبيرا من موسيقى أفلام العالم بشتى أنواعها الوثائقية والتاريخية والدراما وأنواع أخرى، فإن حضور التراث الموسيقي المغربي ضعيف جدا.. اللهم إلا بعض الاستثناءات، مما يدفعنا إلى التفكير في خلق آليات جديدة وإبداع أفكار جديدة، من أجل ضمان حضور التراث المغربي الموسيقي بشكل راق يتعدى حصره بصورة ضيقة في السياحة فقط.
o o مركز أكاديمي خاص بالعيطة..هذا الاقتراح يتبناه العديد من الباحثين..لم لا ..؟؟
n n المصالحة و إعادة الاعتبار للعيطة، لا يقتصر على مهرجان وطني لمدة ثلاثة أيام.. بل يستحق إنشاء مركز فني للتوثيق وحماية هذا النمط من الموسيقى المغربية التقليدية المرتبطة بمكون إثني للمجتمع المغربي، له من العادات والتقاليد والخصوصية الثقافية .. ما يفرض إنشاء هذا المركز الذي يضم باحثين متخصصين في الموسيقى.التبوريدة..الزجل.. مهن شعبية…تعكس غنى المجتمع المغربي والقواسم المشتركة مع العالم.
o o نختم هذه الدردشة بهذا السؤال : الإثنيات لها موسيقاها ومكونها الموسيقي..
n n الجامعة المغربية لا تهتم بالموسيقى الإثنية..ولا تتماشى مع المجهودات التي يقوم بها باحثون في هذا المجال ..يبقى الأمر مجرد بحوث ودراسات أكاديمية تستقر في الأرشيف الجامعي..؟؟
لكل مكون إثني وموسيقاه وعاداته وتقاليده، وموسيقى الإثنيات هو تخصص يمكن من دراسة موسيقى الشعوب، وتطورها ومن خلالها معرفة خبايا تطور المجتمعات، من خلال الموسيقى.
علم «الأنثروبولوجيا» يتقاسم أشياء كبيرة مع هذا التخصص الذي يحتاج معرفة موسيقية معمقة لدراسة تطور مجتمع ما. لكن الجامعة المغربية متخلفة جدا في هذا المجال، ولم تفتح أبوابها لاحتضان مسالك تعنى بهذا التخصص المهم، والذي فك رموز وأسرار العديد من الحضارات التي ظلت عصية على كبار الباحثين غير الملمين بالموسيقى.
هذا الغياب يعكس الفكر العام السائد في مجتمعنا، والذي ينظر إلى الموسيقى كتسلية ولا فائدة منها، وهو ما يتنافى مع عمق ونبل الموسيقى علما وفنا ولغة عالمية، ولولاها لما ساهم فيثاغورس وأرسطو وابن سينا والفارابي والكندي وآخرون في ترك بصمتهم في تغيير وكتابة تاريخ العالم.