التوجيه الملكي واضح… فهل تعي الأحزاب حجم اللحظة؟
نور الدين زوبدي
انطلقت المشاورات السياسية التي دشنتها وزارة الداخلية مع الأحزاب الوطنية، تنفيذًا للتوجيهات الملكية السامية الواردة في خطاب العرش، والتي دعت بوضوح إلى المرور إلى السرعة القصوى في الإعداد الجيد للانتخابات المقبلة، بما يضمن شفافيتها ونزاهتها، ويُعيد الثقة المفقودة لدى المواطن المغربي في العملية السياسية برمتها.
اللقاء الأول مع قادة الأحزاب خُصّص لمناقشة منهجية التشاور وتحديد آليات استقبال المقترحات، في أفق تقديم مذكرات مكتوبة خلال أجل أقصاه شهر. ورغم أن الخطوة لا تزال في مرحلتها الإجرائية، إلا أن خلفياتها وتداعياتها تكشف عن عمق الرهانات المطروحة، والتي تتجاوز التفاصيل التقنية إلى جوهر الإصلاح السياسي والديمقراطي.
وفي هذه اللحظة الدقيقة، شرعت الأحزاب في تداولاتها الداخلية، سعياً نحو بلورة مذكرات تعكس تصوراتها. ومن الطبيعي أن يسعى كل حزب إلى طرح ما يخدم موقعه السياسي ويمنحه فرصًا أوفر في الاستحقاقات المقبلة. لكن ما يثير القلق هو ميل بعض مكونات التحالف الحكومي إلى التمترس خلف آليات انتخابية أبانت التجربة عن محدوديتها، بل وكونها أصبحت عبئًا على الممارسة الديمقراطية، تُضر بالمصداقية وتُكرّس العزوف الشعبي.
لكن، وإذ نُثير هذه الهواجس، ينبغي التأكيد أننا لا نستبق الأحكام ولا نُصادر المواقف المحتملة للأحزاب المشاركة في المشاورات. فالمرحلة لا تزال في بدايتها، وقد تُفاجئنا بعض الأطراف بمواقف مسؤولة ومنفتحة. ومع ذلك، من حقنا أن نُعبّر عن التخوفات المشروعة، لعلّ في ذلك ما يُسهم في تنبيه المعنيين إلى ضرورة الانخراط في توافق واسع حول منظومة انتخابية جديدة، تكون قادرة على فرز مؤسسات منتخبة ذات مصداقية، وفي مستوى تطلعات الملك والمواطنين على حد سواء.
وليس خافيًا أن هناك تخوفًا مشروعًا من أن تُخلف بعض الأطراف الموعد السياسي مرة أخرى، عبر الدفاع عن صيغ انتخابية أنتجت في السابق مؤسسات هشة، ومجالس شكلية، وأسهمت في تكريس اللا ثقة، بدل أن تُشجع على الانخراط والمشاركة. وما يُثير القلق أيضًا هو أن أي محاولة للالتفاف على جوهر النقاش، وحصر الإصلاح في شكليات لا تمس البنية الفعلية للنظام الانتخابي، ستجعل من هذه المشاورات مجرد تمرين شكلي فارغ المحتوى.
في المقابل، ينظر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى هذه المشاورات باعتبارها فرصة حقيقية لإصلاح الأعطاب السياسية، وتقوية شروط التنافس الشريف، ومنع استغلال إمكانيات الدولة والمشاريع العمومية لأغراض انتخابية. وهو الحزب الذي ظل، منذ أكثر من سنة ونصف، يطالب بإطلاق هذه المشاورات، إيمانًا منه بضرورة تجويد المنظومة الانتخابية، لتواكب التحولات وتقطع مع أساليب التلاعب والهيمنة، وكل ما من شأنه المساس بنزاهة وشفافية الاستحقاق الديمقراطي.
ورغم هذا التفاؤل الحذر، فإن الطريق نحو الإصلاح الحقيقي لا تزال محفوفة بالمطبات. فهناك قضايا جوهرية، مثل التقطيع الانتخابي، وحالات التنافي، والعتبات، وصيغ التمثيل، تلوح في الأفق كمحاور خلافية، وتُهدد بتحويل النقاش إلى صراع تقني يُخفي رهانات سياسية أعمق. وهي ملفات لا يمكن التعامل معها بمنطق الحفاظ على الامتيازات، أو فرض الأمر الواقع، بل تستدعي مقاربة وطنية شاملة تضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار.
من غير المقبول، اليوم، أن تستمر بعض الأطراف في تبرير الإبقاء على منهجيات انتخابية أظهرت الممارسة أنها أصبحت متجاوزة، ولا تُشجع على الرفع من نسبة المشاركة، ولا تُعزز الثقة في العملية الانتخابية برمتها. فهذه المنهجيات تكرّس الانغلاق، وتُضعف تمثيلية المؤسسات، وتُفرغ الاستحقاقات من بعدها الديمقراطي التعددي.
الواجب الوطني يفرض علينا جميعًا الانخراط في مناقشة ورش الإصلاح بتجرد ومسؤولية، بعيدًا عن الحسابات الحزبية الضيقة. لأن تجويد النظام الانتخابي ليس مجرد إصلاح قانوني، بل هو رهان ديمقراطي، ومفتاح لإعادة الاعتبار للعمل السياسي، ولمعنى التصويت، ولمصداقية المؤسسات المنتخبة.
لقد كان الخطاب الملكي واضحًا في توجيه بوصلة الجميع نحو الجدية، والسرعة، والتوافق. وأي محاولة لعرقلة هذا الورش، أو التغريد خارج السرب، أو فرض موازين قوى غير عادلة، هو خروج صريح عن روح التوجيه الملكي، وتنكّر لطموحات الشعب المغربي.
نحن اليوم أمام لحظة فارقة. لحظة لا تحتمل التردد، ولا تقبل التأجيل أو التسويف. المطلوب أن نرتقي جميعًا إلى مستوى اللحظة، وأن ننتج منظومة انتخابية عادلة، شفافة، وتنافسية، تُعيد الاعتبار لصوت المواطن، وتُؤسس لانتخابات ذات مصداقية، تُعبّر عن الإرادة الشعبية الحقيقية، لا عن توازنات مصطنعة أو مخرجات مُعدة سلفًا.
أما من يُصرّ على التشبث بالمنهجيات القديمة، أو يُحاول فرض منطق “الغنيمة” تحت غطاء الأغلبية العددية، فإنه لا يُضعف فقط خصومه السياسيين، بل يُجهز على ما تبقى من الثقة في الديمقراطية، ويُغامر بمستقبل المسار الديمقراطي برمّته.
الرهان، إذًا، ليس فقط في احترام آجال الانتخابات، بل في جعلها فرصة حقيقية لاستعادة المعنى السياسي، واستنهاض المشاركة، وترسيخ التعددية.
وذلك هو الاختبار الحقيقي… والذي سيحكم عليه المغاربة، عاجلًا أم آجلًا.
الكاتب : نور الدين زوبدي - بتاريخ : 07/08/2025

