من العاصمة .. الإجهاد المائي والحكومة

رغم أن أزمة ندرة المياه في المغرب أصبحت اليوم معطىً بنيوياً ومزمناً، فإنها ليست مفاجئة، ولا وليدة تقلبات مناخية طارئة. فكل المؤشرات والدراسات المحلية والدولية كانت تنذر منذ عقود بتفاقم الوضع، وتدق ناقوس الخطر بشأن التراجع الخطير في الموارد المائية، بفعل التغير المناخي، وسوء تدبير هذه الثروة الحيوية، وغياب سياسات استباقية حقيقية.
لقد كان من المفروض أن يتم، منذ سنوات، اعتماد إجراءات استراتيجية شجاعة، تنقذ البلاد من هذه المعضلة الوجودية التي تهدد حق المواطنين في الحياة، وتعصف بمقومات الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، خاصة في المناطق التي لطالما عُرفت بجفافها وارتفاع درجات الحرارة فيها.
لكن للأسف، بدل المعالجة الجذرية والعدالة المائية، اختارت «حكومة الوعود المكررة» الاكتفاء بالخطب والتصريحات، متناسية أن ملايين المغاربة في القرى والجبال والهامش، لا يملكون رفاهية الانتظار، ولا قدرة على العيش دون ماء.
في الأيام الأخيرة، تناقلت وسائل الإعلام المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي صوراً ومشاهد مؤلمة لأسر كاملة، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، يجتازون مسالك وعرة بحثاً عن قطرة ماء. مشاهد حية تفضح هشاشة الواقع، وتختزل أزمة التدبير، وتكشف زيف الشعارات المرفوعة حول «العدالة المجالية» و»الحكومة الاجتماعية».
هؤلاء المواطنون لا يطلبون امتيازاً، ولا يسعون إلى غنيمة، بل يبحثون فقط عن ما يضمن الحد الأدنى من الحياة، لهم، ولدوابهم، ولما تبقى من قطعان أغنامهم التي أتى عليها العطش شيئاً فشيئاً. مشاهد تعيدنا إلى زمن البدايات، حين كانت المياه موردًا نادراً في الصحارى، لا في بلد اعتُبر لسنوات «غنياً» بثرواته الطبيعية.
وما يزيد من مأساوية المفارقة، أن تقارير رسمية تشير إلى استمرار تنامي صادرات بعض المواد الفلاحية كثيفة الاستهلاك للمياه، والتي شجّعها «المخطط الأخضر»، رغم ما يعرفه المغرب من جفاف حاد وانحباس للأمطار. الأمر الذي يكشف تغليب منطق الربح المادي والسوق التصديرية على مصلحة الوطن والمواطن، ويؤكد أن القرار العمومي ما زال رهيناً برؤية انتقائية، لا ترى في الماء إلا أداة ربح وليس عنصراً للحياة والعدالة والاستقرار.
نعم، لا أحد فوق القانون، ولا يجوز أن يكون أحدٌ تحته أيضاً. لكن الأخطر، أن يتم إقصاء قيمة الأخلاق من معادلة السياسة والاقتصاد، وأن يُلغى صوت الضمير من حسابات التنمية، في بلد لا يُفترض فيه أن يطلب مواطنوه شيئاً أكثر من «قطرة ماء».
الحكومة، بكل مؤسساتها، مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بإعادة النظر في سياساتها المائية، واعتماد نموذج تدبيري جديد يقوم على العدالة والنجاعة والاستدامة. فالماء لم يعد مجرد مورد طبيعي، بل أصبح حقاً وجودياً، وسلاحاً جيوسياسياً، ومؤشراً حاسماً على صدقية الحكومة في استراتيجياتها التنموية.