زحفت التقنيات الهائلة للذكاء الاصطناعي، إلى كتابة الأجناس الأدبية المختلفة. ويقال أنّ أولى محاولاته عمل عنوانه» لحية نصف ظاهرة» عام 1984 بوساطة برنامج الكمبيوتر راكتر. ويمكن توصيف الذكاء الاصطناعي بأنه «ذكاءٌ يهتمّ بتطوير أنظمةٍ تكنولوجية قادرةٍ على محاكاة القدرات الذهنية البشرية، وتنفيذ المهام التي تتطلب ذكاءً وتفكيراً عاليين».
كما أنّ المبدعين بدؤوا الحديث منذ فترةٍ ليست باليسيرة، على أنّ الشعر ظلّ عصيّاً على استنطاقه من قبل الروبوتات، فيما ولج ميدان السرد، قصّةً ورواية. وها هو الروائي المصري ابراهيم عبد المحيد يقول» تابعت أمر الذكاء الاصطناعي فعرفت أنّه حتى الآن لم يستطع أحد أن يستنطقه بالشعر لصعوبة الصور الشعرية.. ضحكتُ وقلتُ فلنكتب جميعاً الشعر وينتهي زمن الرواية»، ويؤكّد عبد المجيد في استطلاع رأيٍ بهذا الشأن، بتوقيع الكاتبة الفلسطينية بديعة زيدان، نُشر في صحيفة» الأيام» البحرينية « الذكاء الاصطناعي مسألةٌ ميكانيكيةٌ خاليةٌ من الروح، لذلك سيظلّ الإبداع الأعظم هو للإنسان في لحظات توحّده مع عمله الفني». هل يعني كلام عبد المجيد، اختراق الذكاء الاصطناعي لحصون الإبداع السردي، ومن بينها حصن الرواية؟ هل هذا الأمر يُعنى بخصائص الرواية عامةً، من أحداثٍ متسلسلةٍ وشخصياتٍ وحبكةٍ ووصفٍ وحوارٍ وصراعٍ بين الشخصيات وتأزّمٍ يصل إلى الذروة، ومن ثمّ يبدأ العدّ التنازلي بحلّ عقد الرواية إلى منتهاها، نقول هل أن كلَّ هذا التعقيد السردي سهل الاختراق من قبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي؟.
نصوصٌ مصنّعةٌ على طريقة القصّ واللصق
وإذا كان قد أُنتج عديد الروايات بمساعدة تلك التطبيقات، ما مقدار نسب حيازتها على سمة الإبداع مقارنةً بروايات الإبداع البشري، يجيب الروائي العراقي أحمد سعداوي، باستعانتنا بالاستطلاع المذكور أعلاه للكاتبة بديعة زيدان، بأنّ حظوظ الروايات المُنجزة بالذكاء الاصطناعي، تُوسم بأنّها أقلّ إبداعاً بكثير من الروايات البشرية، إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير، فالأولى» تستفيد من «داتا» ضخمةٍ فيها ذاكرة قصصٍ وحكاياتٍ وسيناريوهاتٍ سابقةٍ أنتجتها العقول الإبداعية البشرية، بحيث يقوم الذكاء الاصطناعي بتوليد نصوصٍ جديدةٍ منها، هي أقلُّ إبداعاً بكلّ تأكيد، فهي نصوصٌ مصنّعةٌ على طريقة القصّ واللّصق مع شيءٍ من المهارة في السبك الذي قد يخفي بعض العيوب» .
خطورة عديمي الموهبة
جلّ الروائيين يؤكّدون أنّ الخزين الهائل في «داتا» تطبيق الذكاء الاصطناعي، يمثّل ماضي الإبداع البشري، وإذا كان الابداع الحقيقي يتّسم بصفة التجاوز، فإنّه لن يكون هناك خيالٌ جديد، ولا انزياحاتٌ لغويةٌ تثري البنية اللغوية للمنجز بوساطة التقنيات الروبوتية. يؤكد ذلك الروائي المصري ابراهيم فرغلي في حوارٍ معه على موقع « الجزيرة نت أجراه الكاتب المصري محمد شبراوي، بأنّه لا يعتقد أنّ بإمكان الذكاء الاصطناعي أن ينافس الابداع، مهما بلغت قدراته على « تجميع فقراتٍ ونصوصٍ من هنا وهناك»، ويطرح رأياً لافتاً للنظر، بأنّه يمكن أن يظهر نوعٌ أدبيٌّ خاصٌّ بالذكاء الاصطناعي، له جمهوره، مثل «روايات الرعب، أو ما شابه ذلك». ويشير إلى أنّ موقع الخطورة في هذا الشأن، يكمن في استخدام عديمي الموهبة هذا التطبيق، لإنتاج روايات، على أنّها من إنتاجهم مئةً بالمئة. وهنا ينبغي أن نذكر أنّ هناك كاتبةً يابانيةً تدعى ري كودان فازت بجائزة « أكوتاغاوا» في بلادها عن روايتها» برج التعاطف في طوكيو»، اعترفت أمام الإعلام بأنّها أفادت من برنامج الذكاء الاصطناعي، عن طريق روبوت المحادثة» شات جي بي تي» بنسبة 5 بالمئة، هذه الكاتبة الشابة البالغة من العمر33 عاماً، أكّدت أنّها ستمضي قدماً في استثمار الذكاء الاصطناعي في كتابة رواياتها، ولكن» مع السماح لإبداعي بالتعبير عن نفسه على أكمل وجه». قد يكون هذا أمراً معقولاً باستخدام نسبةٍ ضئيلةٍ من الذكاء الاصطناعي، مع اعتراف الكاتب بهذا الشأن أمام الملأ، لكنّ الأكاديمي المغربي عبد الرحمن الشرقاوي في جامعة «أوساكا» اليابانية، يرى أنّ سبب فوز كودان، مع استعانتها بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، هو أنّ روايتها» تعالج قضيةً مستقبليةً وإحدى شخصياتها هي عبارةٌ عن آلةٍ ذكية»، بما معناه أنّ روايتها يغلب عليها طابع «الكتابة التقنية والقوالب الجاهزة»، وهي بذلك « لا تستطيع ابتكار لغةٍ جديدةٍ أو استخداماً جديداً للغة»، وكلُّ ما تفعله هذه التطبيقات، بأنها «ترتّب قوائم المراجع أو أن تكتب فقراتٍ وصفيّةً تتّسم بنوعٍ من التكرار أو القولبة». في المقابل فإنّ هذا الفوز بجائزةٍ مرموقةٍ للكتاب الواعدين، يعني فيما يعنيه تحفيز الكتّاب الشباب على التوجّه إلى استثمار الذكاء الاصطناعي في كتابة رواياتهم من أجل القطف السهل للجوائز.
لامتثال للقارئ
وهنا نعود إلى الروائي المصري ابراهيم فرغلي في الحوار المذكور معه، إذ يتعجّب أنّه أصبح من مفاهيم النجاح الآن الامتثال لما يريده القارئ، فيقول «هذه ظاهرةٌ عجيبةٌ لأنّ القارئ في الواقع متغير، وكتلةٌ غير منسجمة، والامتثال لها بلا شروطٍ خيانةٌ لشروط النص الذي تفرضه أفكار الكاتب والأسلوب الأدبي الذي يقترحه». ومن هنا يزداد احتمالنا أنّ نوعاً أدبياً خاصّاً بالذكاء الاصطناعي سيترسّخ مستقبلاً، يقوم على الامتثال للقارئ ورغباته في وضوح وفهم ما يقرأ. أي أنّ الذكاء الاصطناعي سيظلّ عصيّاً على الشعر الحقيقي القادر على صناعة الابتكار والتجاوز.
مفارقة .. قصائد الذكاء أفضل!
ما يؤكد مقاربتنا عن الأدب الخاص بالذكاء الاصطناعي، أنّ هناك من جمهور القرّاء من يرون أنّ الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد أفضل من الإنتاج البشري لها، إذ نشرت» الشرق الأوسط» اللندنية، تقريراً عن دراسةٍ بهذا الشأن، وهي دراسةٌ أجراها باحثون في إحدى الجامعات الأميركية، شملت استطلاع آراء عددٍ من المشاركين بشأن المقارنة بين قصائد أشهر الشعراء العالميين مع قصائد أنتجها الذكاء الاصطناعي، غالبيّة المشاركين رجّحوا كفّة قصائد الذكاء الاصطناعي، وبتعميم عينة المشاركين على جمهور القرّاء العاديين، يمكن أن نخلص إلى قول كتّابٍ عن نتائج الدراسة بأنّ هؤلاء القرّاء» يفضِّلون القصائد التي تمّ إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي؛ لأنّهم يجدونها أكثر وضوحاً وسهولة». ويوضّح كتّاب ، بأنّ « التعقيد والغموض» في الشعر الحديث الآن، من أسباب تفضيل الكثير من القرّاء للشعر المكتوب بوساطة الذكاء الاصطناعي على الشعر الذي يكتبه البشر.
روح العصر
وهنا مكمن الخطورة، في انسياق القراء العاديين مع مُنتجات الذكاء الاصطناعي، في زرع مفاهيم قد تكون في غير صالح الإبداع الحقيقي، بأنَّ ما يقرؤونه من شعر بسيطٍ وواضح، هو الأفضل، وما عداه لا يتلاءم مع روح العصر، عصر الذكاء الاصطناعي. إذاً مسألة ظهور أدبٍ خاصّ بهذا العصر، ستكون واردةً في المستقبل القريب، ومن أهمّ ملامحه اعتماد ماضي» الداتا» الضخمة من التراث الإبداعي، لإنتاج ما هو بسيطٌ وواضحٌ ومقروءٌ من قبل جمهور الذكاء الاصطناعي.
وهنا سيظلّ جوهر الشعر الحقيقي امتيازاً للإنتاج البشري، مسكوناً بروح التجاوز لما هو كائنٌ لأجل ترسيخ ما سيكون، وهو العصيّ على تطبيقات الذكاء الاصطناعي. ما يدعم ذلك أنّ ناقداً وأكاديميا مغربياً مثل محمد الديهاجي، يقلّل من شأن كتابة الذكاء الاصطناعي للشعر، فيرى في مقالةٍ له بهذا الشأن منشورةٍ في « القدس العربي» اللندنية بأنّ الشعر حالةٌ ثقافيةٌ إنسانية، تعكس الشاعر البشري بتجاربه ومواقفه ورؤاه، حيث يصعب على الذكاء الاصطناعي، أن يفهمها، أو يستطيع إنتاج قصائد «ذات محتوى عاطفيٍ أصيلٍ تضاهي مثيلاتها الإنسانية»، بل أنّ الديهاجي يشبّه الذكاء الاصطناعي، مثل طفلٍ في طور التعلّم، فإذا لقّنه الملقّم محتوىً مليئاً بالأخطاء الطباعية والنحوية، كان النصّ المُنتج كارثياً. وإذا كانت هذه وجهة نظر ناقدٍ وأكاديمي، فإنّ شاعراً مثل اللبناني شربل داغر لا يكترث لإنتاج الذكاء الاصطناعي للشعر، ويذكر في مقالٍ له بهذا الشأن « أنّ القصيدة عصيّةٌ على هذا كله، وليست معنيّةً به. فهي تجانب في الأساس… الذكاء، فكيف إذا كان اصطناعياً! قرأتُ بالصدفة بعض إنتاجات هذا الشعر «المصنَّع»، ووجدت فيه، مع مدبري المسعى، فشلاً فنياً وجمالياً».
وهناك من جرّب محاورة تطبيق شات بي جي تي، ذلك هو الشاعر المغربي منير الإدريسي، حيث وصف قصيدة التطبيق بـأنّها «هراءٌ سخيف» فيردّ عليه التطبيق أنّ بإمكانه توجيهه بما يساعده في» تقديم قصائد أفضل في المرة القادمة». والسخرية هنا هي ديدن الإدريسي، إذ يرى أنّ مجرد تخيّل روبوت يكتب عن الحب « نكتة تبعث على الضحك». كما يذكر في مدوّنته الحاملة لأفكارٍ طريفة، بأنّه على الرغم من النقص والقصور الفني الفادح، بحسب تعبيره « بدأت تصل أعمال الشّعراء الآليين إلى المكتبات بأسرع ممّا كنّا نعتقد».
تلك التسمية، الشعراء الآليون، ومثلها نقول؛ القصّاصون الآليون، والروائيون الآليون، جديرةٌ بلفت الانتباه، بأنّ هؤلاء ينضوون تحت لافتة أدب الذكاء الاصطناعي. وأخيراً نقول:
روائيون وشعراء مبدعون ونقّاد وأكاديميون يستهجنون سطوة الذكاء الاصطناعي على الأجناس الأدبية مثل الرواية والقصة والشعر، وكاتبةٌ روائيةٌ شابة، تستثمر الذكاء الاصطناعي في الفوز بجائزةٍ مرموقة، وقرّاء يفضّلون قصائد الذكاء الاصطناعي على نصوص أشهر الشعراء في العالم ؛ جيفري تشوسر، ووليم شكسبير، وصامويل بتلر، واللورد بايرون، ووالت ويتمان، وإميلي ديكنسون، وتي إس إليوت، وألين جينسبيرغ، وسيلفيا بلاث، ودوروثيا لاسكي.
ماذا يعني هذا سوى أنّه من المفيد، كي لا يُخلط الحابل بالنابل، أن يترسّخ أدبٌ خاصٌّ بالذكاء الاصطناعي شعراً وسرداً، تمييزاً له عن الإبداع الإنساني الحقيقي والخالد، ربّما، أبد الدهر.