انتهيت من قراءة مجموعة «الرقصة الأخيرة» للحسن باكور، وهي المجموعة الحائزة على جائزة دبي الثقافية سنة 2015.
ومن عادتي أن تنتهي علاقتي مع الكتاب فور الانتهاء من قراءته، ويمكن للكتاب الجيد أن يحظى فيما بعد بفرصة أخرى لتقليب سريع لصفحاته، لكن الذي حدث بعد إنهائي مجموعة «الرقصة الأخيرة» للحسن باكور أنني أعدت قراءتها مرارا، لما تميزت به من خصوصية صادمة، وخصوبة سردية فنية، ترافق بعضها مع أجواء غرائبية على مستوى عال من الخيال، فقد استطاع الكاتب، أن يشدني لعوالمها العجيبة رغم أن بعضها قد يبدو مألوفا، لكن ريشة القاص منحتها الروعة والإدهاش.
تغوص النصوص في عوالم النفس لاكتشاف هشاشتها، وقدرتها العجيبة على تجاوز محنتها. فحيثما حللت أدركت أنّ الكاتب لم يفرّط في قضيّة من قضايا واقعه لم يستثرها ويثير معها الأسئلة الحارقة. ولكّنه لا يمنعك مع ذلك من التّفاؤل.
ويصدق قول الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي عن مهارة الكاتب القصصية: «إن كتابة القصة القصيرة مثل إطلاق سهم، حيث لا بد من توفر غريزة وممارسة ودقة، رامي القوس الجيد، والقوة اللازمة للإطلاق، والعين القادرة على قياس المسافة، والسرعة في الرمي، والحظ الطيب لإصابة الهدف, الرواية تصنع بالعمل، والقصة القصيرة بالإلهام، إنها بالنسبة لي جنس صعب مثل الشعر».؛ لقد توفرت هذه العدة الكاملة في القاص لحسن باكور الذي منحنا، بفضل ذلك، قصصا تبعث على الدهشة، وتحقق الإمتاع والمؤانسة.
عن الوصف:
للوصف أهمية في بناء المعنى، وتشييد الدلالات، فالوصف عنصر فعال في تشكيل الصورة بناء على جزئياتها. فاعتماد رصد الجزئيات بدقة عين صياد كان بهدف خلق مشهد أكبر قادر على خلق الوهم بالواقع، بيد أنه واقع نصي؛ قد يتشاكل مع الواقع العياني؛ وقد يختلف عنه ليبني واقعه الخاص الممتلك صدقيته: بدت له في كامل زينتها: عينان جعلهما الكحل أكثر استدارة وسحرا/فوق الجبين الوضاء تتدلى لامعة قطع قلادة «تاوزنا» الفضية.. و»حفرتا الزين» في الخدين الممتلئين.. بالضبط مثلما بدت في حفل العرس الذي رقصا فيه معا لأول مرة منذ.. يا إلهي !..منذ أربعين سنة ! ص60 و61
يمنحنا الوصف في هذا المقطع صورة حية للحبيبة بغاية التحسين، وخلق أثر جميل في نفس المتلقي، وجعله يرى مشهد المرأة كما لو كان حيا؛ وأكثر من ذلك، يجعلنا نصدق قوة ذاكرة الرجل الذي ظل محتفظا بصورة حبيبته طرية في أرشيف ذاكرته رغم انصرام الأعوام.
أما عن الأمكنة، فيمكن تقسيمها، بالنسبة لي، إلى مغلقة، ومفتوحة؛ المغلقة تكشف أعماق الشخصيات، ومخاوفها، وهواجسها، وخيباتها، وفي حين، تأتي المفتوحة عامرة بالأمل. توزعت القصص بحسب فضائها الجغرافي بين أمكنة عدة، وكان القاص شديد الحرص على العناية بالمكان وتحديده ضمن تفاصيله الأكثر دقة، إذ تتضمن جل القصص على مشهدية تصويرية، بحيث لم يعد المكان مجرد عنصر جمالي، بل صار يحيلنا من خلال طبيعته سواء كان بيتاً أو مصعدا أو غرفة نوم، أو سيارة، أو مقهى، أو عبوراً بين الشوارع، إلى طبيعة العلاقة بين الشخصيات، ليكّون المكان مع جدلية الزمن بنى معرفية تفرض سياقات السرد، وتوضح منطق الشخصيات، فتنفتح على الجزئيات مشهداً متكاملاً، فعلى سبيل المثال يختار القاص للمرأة في قصة «أنثى محتملة» ص 115جدران البيت ليكون سجنها النفسي ضمن هواجس غير معلنة من الشك والترصد وسطوة العزلة، وقسوة الوحدة. فيما يكون الشارع فضاء الأمل، والشعور بالتحرر، والتغيير؛ فقد كان لصوت الرجل المتغزل أثر بين في نفسية المرأة، إذ رغم رفضها السطحي في البداية، فقد صارت مدمنة على سماع غزله الذي بدأ يجتاح كيانها المنطفئ، كلمات الغزل صارت ضرورية لري عطش نفسها الباحثة عن الحب. كما كان الفضاء الفسيح فرصة لخلق الشعور بالأنس لدى المرأة المحرومة، فكان أن قررت إدخال تغيير جذري على حياتها لتخرج إلى الشارع بهدف معانقة الحياة.
علاقة الرجل بالمرأة:
كما أن العمل أفسح المجال كبيرا لقضية علاقة الرجل بالمرأة؛ علاقة تتميز مرة بالاضطراب، ومرة بالانسجام، مع رغبة في منح فرصة للزوجين في حالة الاختصام لفسحة زمن حتى يعدلا عن فكرة الانفصال؛ كما في نص «شجرة النارنج» ص103، فالسارد ومن داخل النص يتابع الزوجين بقلب خافق، يرجو أن يفشل مشروع طلاقهما، دون أن يتدخل في سير الأحداث، إنه يراقبهما بحياد، لكنه يتمنى أن يزول الخطر عنهما فلا يخربا أسرتهما، ويرجو أن تكون ابتسامة طفلهما بلسم جراحهما.
صحيح أن الرجل هو الذي يفعل، يتحرك، يتكلم بصوت مرتفع، حتى وإن لم يسمعه السارد، ينفعل، يغضب، بيد أن تلك الابتسامة الصافية والمنبعثة من محيا الصغير يمكن أن تكون بمثابة طوق ينقذ الأسرة من غرق محتمل. يشعر السارد بفرح حين تقفل المحكمة أبوابها، ويظل الزوجان بعيدين عنها، فتلك فرصة للعدول عن فكرة الطلاق.
لكن قصة «رحلة في جوف الظلام» ص91، تقدم لنا توترا يعتري الزوج، فيفكر في جسد أطرى بعد أن شاهد جسد زوجته يترهل، لكنه لم يفكر بتاتا في تطليقها بل أحس بندم، فعزم على تقديم هدية لها تفرحها وإن كانت بسيطة؛ مؤكدا، بذلك، تعلقه بها، وعدم رغبته في التخلي عنها.
وقد نوع سراده، بين السارد الموضوعي المحايد الموجود خارج النص، وذاك الموجود داخل النص، وغير المشارك في الأحداث إلا من زاوية عمله التي يشغلها، والسارد المشارك…
في نص «المصعد»، يأتي السرد بضمير المتكلم المفرد ليحكي عن معاناة الرجل من أمور شتى، وبالأخص خوفه الذي بلغ درجة الرهاب من الأماكن الضيقة والمغلقة، مثل المصعد.؛ وكانت تعابير جسده مظهرة لهلعه، إذ حضر التعرق، وضيق التنفس نتيجة الظن بغياب الهواء، مع وصف دقيق لحالة الرعب الشديد الذي شد بخناقه؛ وقد بذل مجهودا مضاعفا لتجاوز محنته. وإذ قابل السارد بين المكان الضيق والمكان الفسيح، فإننا نجده قد أولى أهمية كبيرة للحديث عن تفاعله مع المكان الضيق، برغبة إظهار ما عاناه جراء مجابهته لخوفه المتوحش، ويتجلى هذا من خلال المساحة النصية التي أفرده له، بخلاف المكان الفسيح الذي حصل على جملة واحدة، وكانت كافية للتعبير عن تحرره، ليس من خوفه من المصعد، فقط، بل من كل مخاوفه، كخوفه من المستقبل، فقد انطلق يعدو إلى الأمام غير ناظر إلى الوراء. وبهذا، تكون النهاية ترميزا عن حرية الشخص التي عانقها بعد إزاحة الخوف عنه؛ هذا الخوف الذي وقف سدا منيعا يحجب عنه رؤية الحياة، ومعانقتها.
يحضر الوصف بقوة في نص «موكب الظهيرة» ص 25 حيث تعتمد كل الشخصيات على بصرها لمشاهدة الواقع، وبخاصة واقع الشخصيات الواقفة قرب محطة الحافلة وهي فرادى قبل أن تصير كتلة واحدة معبر عنها بلقطة جامعة لكل أطياف المشهد؛ فهي الرائية والمرئية في الآن ذاته، كل ذلك يجري تحت أنظار السارد المؤطر؛ يقوم بوصف جزئيات المشهد ليجمعه بعد ذلك، ثم يعود إلى تقري الجزئيات، في لعبة ذهاب وإياب، بين الكل والجزء، مع استحضار الوصف من الأعلى إلى الأسفل، ومن البعيد إلى القريب، كما لو كان كاميرا ترصد دقائق الأمور، ضمن مشهد كلي، تقوم فيه الشخصيات باختلافها بالتحرر من أعبائها، وما يعوق حركتها، وفق ترتيب دقيق، يؤكد على الانصهار بعد تأبيات عدة وبخاصة من صاحب ربطة العنق المتعجرف.
في قصة «الرقصة الأخيرة» ص57؛ وهي القصة التي أظل اسمها المجموعة، والمسرودة من طرف سارد خارجي ذي نظرة موضوعية تعتمد على الرصد الخارجي، تأتي الرقصة معبرة عن الرغبة في تجاوز الحاضر البارد، فالرقص حرارة تدب في أوصال الجسد، تمنحه الطاقة التي بموجبها تستمر الحياة. إنها الرقصة الأخيرة التي لا يمكن أن تتكرر؛ الرقصة الأخيرة التي تعيد لحظات الفرح الهارب في حاضر يتميز بالوحدة والفراغ.
بالرقص يستعيد الراقص اللحظات المنفلتة من قبضة الزمن، بها يتم النفخ في الجذوة الثاوية خلف رماد الذاكرة ليرممها، ليعيد إليها وهجها، ونضارتها، وقوتها. والرقص تعبير عن فعل وجودي خارق للزمان والمكان، قادر على تسعيد الذات، ومنحها البهجة المشتهاة. إنها الرقصة الأخيرة التي كان لها ما قبلها، لكن لا يمكن أن يكون لها ما بعدها، لكونها ستكون الرقصة الفريدة.
يقول نيتشه:»علينا أن نعتبر كل يوم يمضى بدون رقص يوماً ضائعاً…»
الرقص شكل من أشكال المقاومة، والجسد غير الراقص جسد ميت، يعتمد استراتيجية الصمت بدل الكلام. الجسد الميت لا يحقق التواصل، في حين، يعد الرقص شكلا من أشكال التواصل بالجسد. لا جسد دون لغة، والأجساد تمتلك لغات متعددة بحسب السياقات والمواقف: فعلا ما شاءا أمام الملأ، تحت الأضواء المتوهجة لفوانيس الغاز، ووسط الهمسات الحالمة للصبايا والشباب: تحاورا، تغازلا، تناجيا، تواعدا.. كما لم يفعلا قط في لقاءتهما الخاطفة، المسروقة والمرتبكة حذر الرقيب.. ص61.
في الموروث الإسلامي، يُعدّ الراقص أو الراقصة شخصاً خارجاً عن المألوف، ومارقاً لا يطبّق الشرع، لذلك ثمّة رابط عجيب ومضحك بين الرقص والدعارة والفحش في أذهان العامّة.
شخص يرقص هو شخص يجلب الانتباه، يحرج المجتمع ويتحوّل إلى موضوع نقاش. مهمّته الأساسيّة هي التغريد خارج السرب وإغراء الآخر بالرقص. من يرقص يخيف من يعاني من عقد ومشاكل مع جسده ومع الآخر المختلف.
الرقص، في النص، مجابهة للموت، إنه الحياة في أجلى معانيها. إنه رقص يخرق المحظور بتصوره البليد، يعيد بناء تصوره من جديد على أساس أنه تحرر من الضغوطات، ومن كل أشكال الخواء. الرقص فرصة معانقة الآخر، وكشف مشاعره تجاهه.
لهذا، تعد اهتزازات الجسد، وذبذباته، وتمايله، وغنجه، وغيرها كلها رموز معبرة، تحمل في طياتها رسائل ينبغي فك رموزها.
لقد تم تجاوز جرح الوحدة بالرقص، حيث تم استحضار الغائب، الطرف الثاني في معادلة العشق؛ وقد لعبت الذاكرة دورا محوريا في استعادته، وكانت الموسيقى المحفز على التذكر ومن ثم الاسترجاع؛ والموسيقى هي دعوة للرقص، ولا يمكن أن يتم إلا بحضور لذاتين مختلفتين يؤلف بينهما عطر المحبة، وما الرقصة الأخيرة إلا تصفية الذات من رواسب الألم، واستعادة التوازن المفقود لتستمر الحياة. نرقص لذواتنا، للتعبير عن إنسانيتنا، نرقص لنتواصل. الرقص فعل سحري يقوم بتذويب الفروقات، يسمح للذاتين بالانصهار، ليصيرا ذاتا واحدة.
عن الجسد:
يمكن عد الحفل المكان المناسب الذي يتحرر فيه الجسد من القيود بفعل الرقص؛ فهو الفضاء قريب الشبه بخشبة المسرح الاحتفالي حيث الكل يشارك ويشاهد.
وفي الرقص لابد من التمييز بين الجسد الفتي والطري، وبين الجسد الهرم والمتآكل، فالأول يستطيع الحركة برشاقة، أما الثاني فيعاني لضعف فيه:
الفتي:
استبد به الحماس فانفصل بسلاسة عن المجموعة وتقدم بخطوات راقصة إلى وسط الباحة، وقف في مواجهتها وراح يرقص. ضرب الأرض بقدمه بحركات موقعة، دون أن يكف عن إرعاش كتفيه ببراعة استثارت مزيدا من الزغردات.
رقص كما لم يفعل قط من قبل، وهو يطوقها بنظراته الولهى. أحس بجسده خفيفا يوشك أن يطير، وشعر أن بإمكانه أن يرقص حتى الصباح.
وعندما استدار عائدا إلى مكانه وسط الفرقة، بحركات موزونة، كان موقنا أنه عاد بقلبها معه. ص 62 و63.
الكهل:
ارتعشت قدماه فاضطربت الصينية في يده، وتفادى سقوطها في آخر لحظة. ابتسم بسخرية: «انتبه يا رجل ! أنت الآن شيخ تقف بساقيك المرتعشتين وسط صالة بيتك، ولست ذلك الشاب المتفجر عافية الذي رقص في باحة دار ذلك العرس القديم»..ص 63.
بين أن فعل الرقص في الشباب هو غيره في الكهولة، فالجسد في المرحلتين العمريتين يختلف قوة وضعفا. وهذا يؤكد أن لكل جسد لغته التي يعبر بها عن وضعه، ومعاناته…
تشظي الحكاية:
لم يعتمد القاص في نصوصه على البناء الكلاسكي المبني على الخط الطولي، بل تلاعب بعناصر الحكاية في كل قصة، ويمكن عد «الحادثة» ص39، نموذج الكتابة المتشظية؛ فهي لا تكتمل إلا بجمع شتاتها، حيث لا تعثر على خط واحد للحدث، ينطلق من بداية، ويبلغ ذرة فحل، بل نجد أنفسنا أما عدة حكايات، ترتبط بحكاية الأب الذي أصيب بحادثة سير مميتة، فهي النواة، وبقية الحكايات كواكب تدور حولها، وتؤسس معناها، فكل العناصر متضامة، لا يمكن التخلي عن أي منها.
مجموعة تستحق القراءة والمتابعة، لثرائها، وخصوبتها الفنية والجمالية، والفكرية.
**
– الرقصة الأخيرة، مجموعة قصصية، للحسن باكور، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الأولى، سنة 2016.