عبد الكريم غلاب… المعلم في ذكرى غيابه الثامنة

منذ ثماني سنوات، وعن سن 97 ، غاب وجهه، لكن إرثه الزاخر، النضالي و الفكري، وهو جزء من الذاكرة الوطنية المغربية، صار في متناول جيل بعد جيل . سيرته، وزنه، عطاء المثقف الملتزم، الحامل لقضايا أبناء وطنه لما هو طلائعي سيبصم، لا محالة، أجيالا من أبناء وطنه .
من يكون عبد الكريم غلاب؟
وهو فتى، 12 سنة، في خضم سن الظهير البربري، في 16 ماي 1930، كانت أول فرصة – وقد تتلمذ في خلايا العمل الوطني على يد عبد العزيز بن إدريس، بوشتى الجامعي وعلال الفاسي – ليخرج للشارع ينادي بإسقاط أخبث جريمة تحاول التفرقة بين البربر والعرب. وبفضل الثورة الشعبية العارمة، وقراءة اللطيف الذي صار يرتل في جوامع المسلمين، ذهل المستعمر، وسقطت خطته. ولأن نشر التعليم كان الهاجس الأول للحركة الوطنية، لأن المستعمر كان يعمل ليتفاداه، كان توجه التنظيم أن يلقن كل فصل من طرف من هو أعلى منه لتعم الفائدة . وهذه هي بلورة فكرة بث الفضيلة بنشر التوعية، والتي بفضلها نجحت الحركة الوطنية في طرد المحتل في ظرف وجيز أي 44 سنة فقط . جاءت مطالب الشعب المغربي سنة 1934 ، فالفتى أصبح مسؤول خلية يعرف عامة الناس بمآسي مواطنين انتزعت منهم أراضيهم ومواردهم المائية لتعطى للمعمرين المتوافدين من فرنسا والتي تستفيد، طبعا، من المحصول الفلاحي للأرض المغربية. ومنذ ذلك الحين، حيث شرفه الحظ ، كما كان يقول، أتيحت له الفرصة لمواكبة سلسلة من فترات تاريخ المغرب إلى الاستقلال، مرورا بمسؤولية تكوين شبه سفارة للمغرب بالقاهرة ، قصدها سنة 1937 ، ليتتلمذ بكلية الآداب على يد طه حسين .
وبتكوين مكتب المغرب العربي رفع، مع زملائه، عاليا فكرة استقلال المغرب. وقد قام هذا المكتب، وبخبر عرفه عبد الكريم غلاب صدفة، وباخرة تقتاد عبد الكريم الخطابي أسيرا منذ 1926 ، عابرة قناة السويس من جزيرة لارينيون إلى مرسيليا ، استطاع إخبار الحبيب بورقيبة وعلال الفاسي وعبد الخالق الطريس، حتى تم اختطاف، عاجلا، زعيم الريف وفكه من الأسر وذلك في ماي 1947.
عاد عبد الكريم غلاب إلى المغرب سنة 1948، حيث اتخذ حزب الاستقلال خطة جديدة بعد زيارة العاهل المفدى محمد الخامس لطنجة في 9 أبريل 1947 مطالبا باستقلال المغرب، إلى نفيه سنة 1953، ليسجن، وثانية بعد سنة 1936، ساعات بعد نفي محمد الخامس، حيث علمت الشرطة بتردد ابن سعود موفد الملك له. فتتدحرج الأم الصامدة بين سجون مختلفة تزور لدى أبنائها الثلاثة.
جاء استقلال المغرب، وعاهد نفسه ألا يغادر، إلى الموت، جريدة “العلم” التي التحق بها سنة 1948، لكن تأسيس وزارة الخارجية، وهي مع الدفاع وزارة سيادة، سلبت من المغرب سنة 1912 بعد دخول المحتل، جعلته مع احمد بلافريج ومحمد بوستة وأربعة آخرين، يدافعون عاليا في المحافل الدولية دور المغرب الطلائعي في استقلال أمم مستضعفة. بعد سنتين رجع الصحفي – وهو في سن 14 ينشر في المجلات الأدبية المصرية- إلى جريدة العلم لتتم ملحمة جليلة – 50 سنة – بينه وبين الصحافة التي أحبها فأحبته .
فلم الصحافة؟ لأنها تهتم بقضايا المواطن، وتدافع عنه، وغالبا ما ينال الحق ورد الاعتبار.
ولم حرية الرأي والصحافة ؟
لأنه جعلها هدفا أسمى يدافع عنها بشتى الوسائل وبالقلم، في هيئات نقابة الصحافة واتحاد كتاب المغرب التي تولاها، فلا السجن ولا المحاكمات أحبطت إرادته، ليصبح هكذا المغرب من الدول القليلة السائرة في طريق النمو تنعم بهذا المكتسب الثمين .
داخل حزبه كان منضبطا، لكن غامر بالمبادرة والحكمة، فإن مست الثوابت أشهر سيفه لاقتناعه أن الحق حق ثابت ومقدس، حيث كان يعتبره الشريان الوحيد لمجتمع أراد لنفسه التمسك بالفضيلة المثلى والطليعة .وفي سياق هذا النقد الذاتي الذي لا هوادة فيه بالنسبة إليه، صاح بالاستقالة من جريدة العلم سنة 2004، بعد أن، وللمرة الأولى في حياته، مورست عليه رقابة من داخل الحزب، وسحب مقال يقول فيه أن القضاء، وطبعا مع احترام قرينة البراءة، هو المنزه الوحيد و ليس دعاية الادعاء. لم يكن يتمنى خروج الأبطال كهذا بعد نضال من أجل قضايا الشعب بجريدة العلم قرابة نصف قرن.
صيحة حق غردها، وأرادها مثالا يقتدى به دوما.
ويبقى السؤال : لماذا هذا الهوس بالكتابة والإبداع -71 مؤلفا – عند عبد الكريم غلاب؟
لأنه كان يؤمن أن للمواطن عامة له دورا في إنارة الطريق . وحتى لما، مثلا، كتب الرواية ففي خلفياتها نجد صاحب فكر لا يمكن إلا أن يكون ملتزما بقضايا وآمال شعبه . ولهذا كان الفكر بالنسبة له محط عناية سامية، يحتاج دوما إلى التغذي بالتقدم حيث ما هو إلا الوسيلة المثلى لمجتمع أراد الرقي .


بتاريخ : 18/08/2025