أدت ترجمة الشاعر الفرنسي للروائي الأمريكي، الذي كان معجبا به، إلى شهرة الأخير، لكنه أضفى عليه سمعة كاتب ملعون.
علاقات نصّية، الكُتّاب ومترجموهم
ضمن ملحقها لصيف السنة الجارية، خصصت يومية «ليبراسيون» الفرنسية سلسلة من ستة مقالات قاربت ضمنها علاقات بعض كبار الكتاب مع مترجمي أعمالهم، وذلك في أعدادها الصادرة من 19 إلى 25 يوليوز 2025.
لم يكن إدغار آلان بو، في سوق الكوابيس، مجرد بائع متجول يعرض للبيع سلعا بدون قيمة. الكاتب ذو الشوارب، المزداد في بوسطن سنة 1809، حاز الخلود عن طريق وضعه لأسس جنس أدبي محدد، الرواية البوليسية، رواية الخيال العلمي والرواية المفتاحية، من «جرائم شارع مورغ» إلى «قناع الموت الأحمر». تُرجم هذا المؤلف الرائد في فرنسا، في البداية، في الخفاء، أو تعرض بالأحرى للسرقة الأدبية لأن أعماله كانت تُنشر من دون الإشارة إلى اسمه. واستمر الوضع على هذا الحال إلى أن أثار انتباه شارل بودلير. سُحر الشاعر بأسلوب الروائي النابض بالحياة و»المشدود مثل عيون شبكات الدروع» (كما ورد في مقدمة مجموعة «قصص خارقة» المترجمة من طرف بودلير والصادرة سنة 1856). مفتونا به، قام بودلير بالترويج له في كل المحافل، مخصصا له عدة مقالات ومترجما 43 قصة من قصصه.
الناسخ
دامت الحمى بين بو والشاعر سبع عشرة سنة. وبرر بودلير الأمر لأحد أصدقائه، كاتبا: «هل تعلم لماذا ترجمت بو بصبر وأناة؟ لأنه يشبهني. في المرة الأولى التي فتحت خلالها كتابا له، اكتشفت، برعب وافتتان، ليس فقط مواضيع حلمت بها، بل جملا فكرت فيها وكتبها هو قبل عشرين سنة.» (من رسالة إلى الصحفي تيوفيل توغي، 1864). مبدعا وسامّا، لهذا أثر بو عميقا فيه. إنه الروائي الذي طالما ابتغى أن يكونه.
بيد أن بودلير لم يكن يعدم، هو الآخر، المشنعين به، الذين نشروا شائعة شريرة: لقد غير بودلير وترجمته وعظّما حكايات الأمريكي. ولولا هذا المترجم الملهم، لظل بو مجرد ناسخ رديء. لكن هذه الأقوال التي كان لها وقع كرة ثلج، نُسفت، سنة 2018، من قبل مترجمين فرنسيين، كريستيان غارسان وتييري جيليبوف، اللذين عادا إلى النصوص الأصلية وتأكدا من أن ترجمة بودلير كانت «أمينة إلى أقصى درجة من الدقة»، رغم بعض الأخطاء الجميلة التي شابت الترجمة (ترجمة «سمكة حمراء» مثلا بـ «سمكة ذهبية»، كما ورد ضمن ترجمة المترجمين للجزء الأول من «القصص الكاملة» لإدغار آلان بو (1831/ 1839)، الصادرة سنة 2018).
الغراب
هكذا إذن، لم يمارس بودلير الخيانة إزاء النصوص المكتوبة، وبالمقابل، فإنه مارسها بقذارة حيال صاحبها، مشيعا له، عقب وفاته، صورة كاتب ملعون ومؤلف نبذته أمريكا، كان زاده الكحول والأفيون. وحياته، الحاضنة لسلسلة متتالية من أحزان الحداد، من فقدان والديه إلى وفاة زوجته الأولى، لم تكن، حسب الشاعر الفرنسي، غير «مأساة أليمة». وقد صمدت هذه الأسطورة طيلة قرنين من الزمن، ذلك أن الناس لا يزالون يعتبرون بو بهذه المواصفات إلى الآن، مدثرا بالسواد، بهيئة غراب، وجهه شاحب ومتجعد مثل كفن ميت. ومعك ذلك، فإنه يبدو أن الوقائع تكشف عن سيرة مغايرة للأمريكي: كان بو يمتلك سخرية لاذعة، لا يحتسي الكحول إلا نادرا. كما أن شفتيه لم يلمسهما، بالمرة، غليون أفيون.
يكمن سبب هذه السمعة الغسقية، الغروية مثل المازوت، إلى حد كبير في ملابسات وفاة الكاتب، وهو لم يتجاوز بعد الأربعين من العمر. ففي مساء أحد أيام 1849، عثر على بو، مختل الهندام ومهلوسا، أمام حانة في مدينة بالتيمور. وعقب ثلاثة أيام، سيلفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى، ليبدأ اللغز الذي يشغل أمريكا الكتب إلى حد الآن. ما سبب موت الغراب؟ الهذيان؟ سكتة قلبية؟ عملية اغتيال؟ داء السعار؟ علما أن بو كان، خلال مرحلة حياته الأخيرة، يخشى أن يتعرف عليه أحد، بل إن حلاقا حلق له شواربه قبيل موته بقليل. إنها فعلا بداية قصة كان بإمكان بو كتابتها، قصة لا يمتلك نهايتها إلا هو شخصيا.