اعتبر البعض ترجمة البريطانية لجميع كبار كتاب القرن
التاسع عشر الروس «كارثية»، والبعض الآخر «رائعة»
علاقات نصّية، الكُتّاب ومترجموهم
ضمن ملحقها لصيف السنة الجارية، خصصت يومية «ليبراسيون» الفرنسية سلسلة من ستة مقالات قاربت ضمنها علاقات بعض كبار الكتاب مع مترجمي أعمالهم، وذلك في أعدادها الصادرة من 19 إلى 25 يوليوز 2025.
خلف نظاراتها ذات الزجاج السميك مثل قطع ثلج، لم تكن كونستانس غارنيت تبصر شيئا تقريبا، أما بدنها النحيف والسقيم، فيخذلها منذ الطفولة. وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فها هو تشوش الوضوح يقضم شبكية عينها! في ظل هذا الوضع، وبمساعدة سكرتيرة تقرأ لها النصوص بصوت مرتفع، ترجمت «الحرب والسلم» لليون تولستوي عن طريق السماع. وبالنسبة للبقية، فكونستانس غارنيت تصرفت وفق طريقتها العادية، أي الترجمة بسرعة، لذا، كانت الأوراق تتطاير الواحدة تلو الأخرى لتفرش الأرضية مثل سجاد.
مزدادة سنة 1861 في مدينة برايتون، ترجمت ربة الأسرة البريطانية هذه جميع كبار الكتاب الروس للقرن التاسع عشر: تولستوي بالطبع، وكذلك دوستوفيسكي، تشيخوف، غوغول وتورغينيف. وهو إنجاز لا سابق له، غير أنه شكل ويشكل مصدر جدل لا نهاية له: ما القيمة الحقيقية لترجماتها؟ فإذا كان البعض يعتبرها تحفا، فآخرون، مثل فلاديمير نابوكوف، يفضلون الحديث عن «براز جاف».
لوحات جدارية
قلبت اللغة الروسية الحياة المرتبة لغارنيت. ففي سنة 1891، وهي تبلغ من العمر ثلاثين سنة، كانت تشتغل في مكتبة بأحد أحياء لندن العمالية. وحدث أن قدم لها زوجها، الناشر إدوارد غارنيت، بعض الروسيين المنفيين، وأغلبيتهم من الثوار. علما أن أحدهم، سيرغي ستيبنياك- كرافتشينسكي، كان فارا من العدالة، ذلك أنه اغتال رئيس البوليس السري للإمبراطور سنة 1878 في مدينة سانت بطرسبرغ. كانت حياتهم تشبه الروايات، وبالمناسبة، فهم يمتلكون عددا لا يحصى ولا يعد من الروايات، لوحات جدرانية كفيلة بقلب المفاهيم.
مفتونة، امتلكت كونستانس غارنيت الرغبة في قراءتها، ولهذا الغرض، تعلمت اللغة الروسية. أصبح اللاجئون أصدقاء لها، رفاقا حميمين لها وأساتذتها. وقد تلا الأمر تهيج كبير من طرفها لترجمة تلك الأعمال، تهيج شبيه بما ينجم عن اكتشاف قارة جديدة. هكذا، وفي حوالي بضع عشر من السنين فقط، ترجمت غارنيت حوالي سبعين رواية: «الحرب والسلم»، «آنا كارنينا» و»الإخوة كارامازوف»… فاتحة بذلك عالما جديدا غير مستكشف للقراء الأنجلو ساكسونيين.
وكان أن أصبح القراء يتخاطفون ترجماتها إلى الإنجليزية في إنجلترا والولايات المتحدة. وقد أسرّ إرنست همنغواي إلى أحد أصدقائه: «لا أتذكر عدد المرات التي حاولت خلالها قراءة «الحرب والسلم» قبل اقتناء ترجمة كونستانس غارنيت لها.» (كما ورد ضمن «باريس عيد متنقل» للكاتب الأمريكي). وفي نفس السياق، امتدح جوزيف كونراد، المقرب من المترجمة، عملها «الرائع» (استنادا إلى ما ورد ضمن الجزء الأول من كتاب»مجموع رسائل جوزيف كونراد» الصادر بالإنجليزية). بيد أن مجموعة من الروس المنفيين ستواجه وتعارض هذه الحماسة المنتصرة لترجمات غارنيت. وعلى سبيل المثال، فنابوكوف، الذي يضع «آنا كارنينا» في أعلى هرم تصنيفه الشخصي للأعمال الأدبية الرائعة، اعتبر ترجمة غارنيت للرواية «كارثة كاملة المعالم»، كما أنه لم يكلّ عن تسويد الصفحات المناوئة لترجمتها. وقد وافقه الرأي الشاعر جوزيف برودسكي، الذي رأى أن ترجمة المؤلفين الروس من قبلها تمت بأسلوب قابل للتبادل. بل إنه آخذ المترجمة على حجبها للكنة اللغة الأصل وتجليات خشونتها، ما أدى إلى نتيجة عديمة الاتقاد، «أرض خضراء ملساء مشذبة على الطريقة الإنجليزية»، سيقول لاحقا الناقد الأدبي كورني تشوكوفسكي.
خصومة
لم يخفت هذا الجدل والخلاف يوما. ففي سنة 1996، سيندد الكاتب دايفيد فوستر والاس بـ «الترجمات الفيكتورية بفظاعة» لكونستانس غارنيت، الترجمات التي يعاد طبعها إلى حدود أيامنا هذه. وإذا كانت كبريات الروايات الروسية قد عرفت ترجمات لاحقة أخرى، فإنه يبدو أن القديمة منها، التي وقعتها غارنيت، تظل تحظى بالجاذبية لدى القراء إلى الآن. وبعد مضي قرن تقريبا وضمن منتديات الموقع الأمريكي «رُديت»، يواصل بعض الملمين بالموضوع إبراز مكامن القوة أو الضعف في ترجمات غارنيت، محيين بذلك الخصومة حولها التي دارت رحاها بين نابوكوف وهمنغواي.