حوارات حول الجندر والجنس والعائلة والرواية والسياسة والسيرة الذاتية
ملخص
أجرى الشاعر والباحث الفلسطيني أنس العيلة والكاتبة جنيفر غروسلاس حواراً مع الروائية الفرنسية آني إرنو (1940)، الحاصلة على نوبل للآداب عام 2022، وقد صدر حديثاً في كتاب عن «دار مرفأ» بعنوان «آني إرنو.. سرد الذات بين الكتابة والحياة» وضم الكتاب دراسة للباحثين فلورانس دو شالونج وفرنسوا دو سارت وترجم المقابلة والدراسة إلى العربية الباحث العيلة وعلاء رشيدي .
من المفيد للكاتب الراسخ الحضور أن يطرح وجهات نظره في الوجود والقضايا التي تثيره، وتشكل خلفية أعماله الأدبية المنشورة في حوارات تضيء زوايا لا تزال معتمة أو ملتبسة للرؤية لدى القراء. هذا من شأنه لو حصل، أن يضاعف من سيرورة الأديب، ويوسع من انتشار أعماله، بل يزخم هذه السيرورة إلى آفاق مرغوبة. طبعاً، قد يصح هذا الأمر في ظروف زمانية ومكانية مواتية، كما هي الحال في الغرب أو في البلدان المستقرة نسبياً، في حين يكون هذا العامل قاهراً ومحبطاً أحياناً في عالمنا العربي، حيث حرية الرأي، حتى للكاتب والروائي والشاعر والفنان، تكاد تكون مقننة، يخفت عندها صوته المفرد، على صليل السيوف والضمائر الجماعية وانقسامات الرأي الأهلية.
حصة العرب بـ»نوبل»
في القسم الأول من كتاب «آني إرنو، سرد الذات بين الكتابة والحياة»، انطوى الكتاب على مضمون المقابلة التي أجراها الكاتب الفلسطيني أنس العيلة وجنيفر غروسلاس، وفي مطلعها تطرق الحوار إلى ترجمة أعمالها إلى العربية، فأعلماها أن أعمالها مترجمة إلى العربية في بعض البلدان العربية، مثل الجزائر وتونس والمغرب ولبنان. ولما سئلت عن السبب في عدم حصول أحد الكتاب العرب على نوبل للآداب، باستثناء يتيم، هو نجيب محفوظ، أجابت بأن هذا يعزى إلى عدم معرفة المعنيين بالجائزة، وجلهم غربيون، بالأدب العربي، وأنها تعرفت، إلى أعمال أديبين عربيين هما صنع الله إبراهيم الأديب المصري الذي رحل عن عالمنا، لأيام خلت، وسمير المرزوقي الأديب التونسي. واللافت في ما أوردته حول تأثرها بالكاتب صنع الله إبراهيم، حين قرأت له كتاب «سنوات ذات»، أن ذلك عزز لديها الميل إلى كتابة سيرة جماعية تنسجم مع رؤيتها السياسية (اليسارية) الميالة إلى اعتبار المهمشين جديرين بالاعتبار.
وتقول أيضاً، بالإجابة عن سؤال أنس العيلة حول ما إذا كان عليها التخلي عن جماليات روائية معينة من أجل إبراز الواقع، بأنها تبحث عن «شكل فني لكل كتاب… بحيث لا يشبه السيرة الذاتية الكلاسيكية من جهة، ولا التخييل الفني من جهة أخرى. بل ينبني على عناصر من الواقع» (ص:20). ولكن إيثار الواقع، والتجربة المعيشة لديها، اللذين يتكرر ورودهما في كلامها على أسلوبها المختلف، لم يكونا ليحولا دون إعجابها بالشعر، وإيرادها كثيراً من الاقتباسات من الشعراء (إيلوار، وأبولينير، ورامبو) في رواياتها، ليقينها بأن في الشعر جوهراً ما ينبغي للروائي أن يسعى إلى إظهاره.
التخييل الروائي
أما القسم الثاني من الكتاب، وهو دراسة شاملة أعدها علاء رشيدي، فينطوي بدوره على أقسام، تتناول مفاهيم أساسية في أدب آني إرنو، من مثل الحكايات في أدبها، ووجهة نظر النقد الماركسي والنسوي والنفساني في أدبها، ومفهوم الأدب الحميمي لديها، والكتابة بالصورة، ودوافع كتابتها الأدبية، والصلة بين السيرة الذاتية والأدب عندها. ويمكن اعتبار هذه المفاهيم مفاتيح لعالم إرنو الروائي، تعين القراء على تذوق رواياتها، والتعرف إلى قيمها، ومشاركتها في عيش خبراتها والتفاعل مع شخصياتها المستوحاة من تجاربها الحقيقية.
تفيدنا روايات آني إرنو، وفق ما يقول الباحث علاء رشيدي، وتبعاً لترجمة أنس العيلة، بأن غالبيتها العظمى مستمدة من تجربة الكاتبة الذاتية، ومن ثم فإن حكايات رواياتها تدور حول علاقتها بالعائلة (والدتها، ووالدها)، وحول علاقاتها العاطفية الحميمية والجنسية تركزت في روايتها «شغف بسيط»، التي تروي فيها تفاصيل مغامرتها العشقية التي عاشتها مع من سمته بالحرف الأول من اسمه «أ»، وتسعى إلى التعبير بقدر أكبر من الحرية، عن «مشاعرها الاستلابية المرافقة لحالة الشغف، ووصف الأحاسيس التي تجعل من الشغف متعة» (ص:57) وحكاية حملها من أحدهم بعد مغامرة جنسية عابرة في مطلع شبابها، مثلتها في تجربة الإجهاض، عبر رواية «الحدث»، وحكاية العنف الذي تعرضت له والدتها من والدها، وحكاية الصعود الطبقي الذي خبرته الكاتبة، بعدما دخلت في سلك التدريس، في حين تهاوت حال والدها من صاحب دكان إلى فلاح في أرض الآخرين. وقد دونت كل ذلك في رواية سمتها «العار». وكذلك شاءت أن تجسد علاقتها بوالدتها من خلال رواية بعنوان «امرأة العام 1987» وهي السنة التي توفيت فيها والدتها، في السابع من أبريل (نيسان) من ذلك العام، بدار العجزة، بمدينة بونتواز.
الأدب الحميمي والمحظور
في القسم الثالث من الدراسة، يتناول الناقد ظاهرة الأدب الحميمي، فيقر، أولاً، بأن الأديبة آني إرنو، لم تتوان عن بسط بعض من سيرتها الذاتية في رواياتها، على توالي إصداراتها، وبما يتفق مع تعريف الباحث الشهير، فيليب لو جون، باعتبار السرد موافقاً لوقائع السيرة وأميناً لها. وبالطبع، قبل أن يمضي الباحث في تعيين حدود السيرة الذاتية المستخدمة في رواياتها، أعاد التعريف بها مفرقاً إياها عن اليوميات الحميمية والمذكرات، بحسب لوجون نفسه. وبناء عليه، رأى الباحث أن مجمل ما صاغته الأديبة يندرج في باب الأدب الحميمي، السالف وصفه، لا سيما في رواياتها «المكان» (الساحة) و»العار» و»شغف بسيط» و»امرأة العام 1987». إذ بلغت الأديبة إرنو، في سردها الحميمي، بل في اعترافها بلحظات الخزي التي خبرتها بنفسها، يوم شعرت بخيانة طبقتها الاجتماعية (الفقيرة) التي ينحدر منها والداها، ومعاشرة زملائها من الطبقة البورجوازية. وليس هذا فحسب، بل إنها تجاوزت المحظور في سردها وقائع علاقتها الغرامية والجنسية مع صديقها الشاب الذي يصغرها بـ30 عاماً، مدونة مشاعرها في ذروة اندفاعها تزامناً مع الفعل الجنسي.
لا تبخل الأديبة آني إرنو، شأن الأدباء العازمين على رسم تصور مختلف عن الكتابة يعبر عن رؤيتهم للعالم وللكتابة، بآرائها في هذا السبيل، ففي القسم الخامس من الكتاب، يكشف الباحث الرشيدي، طبعاً بترجمة الكاتب أنس العيلة، عن المفهوم الأساس الذي ارتأته الكاتبة إرنو معبراً عنها، وهو «أن الكتابة هي الملاذ الأخير لمن خان» (ص:133). وتعني بالخيانة كل من افترق عن طبقته، أو من عاش ممزقاً بين ثقافتين واضحتي المعالم، وشاء التعبير بصدق، وبانحياز إلى الثقافة الأخرى المختلفة والنقيضة، إن صح التعبير، مع تسجيلها الانطباعات الخاصة والناجمة عن هذا الافتراق الأليم، بل لعلها الكتابة الوليدة مع ما يرافق ذلك من آلام وآمال.
ومن ميزات الكتابة التي تركز عليها آني إرنو تجريد الكتابة لديها من النوستالجيا، وجعلها محايدة، بحيث يكون التحليل الاجتماعي مرتبطاً بالجماليات، أو تكون الجماليات في خدمة التحليل الاجتماعي، وفق ما يتضح في روايتها «المكان» (أو الساحة). أما صورة الأم التي جهدت آني إرنو في رسمها، من الزاوية نفسها، عنيت الحياد في سرد حكاية والدتها، فمن أجل أن تبرز فيها صورتها المزدوجة، بل المتحولة، إذ تقول «عندما أنكب على الكتابة، أرى الأم الطيبة تارة، والأم السيئة تارة ثانية. ولأفلت من قبضة هذا التأرجح النابع من أقصى الطفولة، أحاول أن أصف وأشرح، كأن الأمر يتعلق بأم أخرى وابنة أخرى لن تكون أنا..» (ص:139).
ترتبط الكتابة لدى إرنو، بحسب الباحث الرشيدي، بمادة الوقائع والمشاعر والحواس والقدرات والوظائف العضوية عند الكاتب، انطلاقاً من تعريفها الكتابة بأنها شغف تواصله ما دام فيها عرق حي، وتسائل عبرها الذات عن تجاربها الأكثر حميمية، والأكثر نقداً وبوحاً لمكنونات الذات. ولما كانت الذات هي موضوع كتابتها فكان لا بد لها من استثمار الذاكرة، على أن تظل (الذاكرة) خارجاً عن ذاتها، وفق ما يقول مارسيل بروست بما معناه «أن ذاكرتنا توجد خارجنا، في نسمة ممطرة، في هبة خريفية. هي أشياء من الطبيعة تؤكد، بتكرارها، على دوام الكائن» (ص:145).
وبعد أن توثق الأديبة صلتها بالذاكرة، تقر بأن الكتابة أعانتها على «تجسيد ما بدا لي شبيهاً بتجربة إنسانية كاملة: تجربة الحياة والموت، تجربة الزمن والأخلاق والممنوع والقانون، تجربة عشتها من أولها إلى آخرها عبر الجسد، عبر الكلمات…» (ص:148).
عن» الأندبندنت عربية»