أغلبية عددية أم أغلبية وطنية؟

نورالدين زوبدي

أبانت التجربة الحكومية الحالية عن صحة الوصف الذي أطلقه الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ بداية تشكيلها، حين تحدث عن “التغول”. اليوم، يتأكد أن هذا الوصف لم يكن مجرّد موقف سياسي ظرفي، بل تشخيص واقعي لما آلت إليه ممارسات هذه الحكومة التي جعلت من العدد أداة للهيمنة، بدل أن يكون وسيلة ديمقراطية لتحقيق التوافق وخدمة الصالح العام.
لقد أصبح الاحتكام إلى الأغلبية العددية هو القاعدة الثابتة في كل محطة مؤسساتية، حيث يتم اللجوء بشكل آلي إلى التصويت، دون اكتراث لمضمون النقاش أو قوة الحجج المقدّمة من المعارضة. الحكومة لا تُكلف نفسها عناء الاستماع، ولا تُبدي أي استعداد لأخذ المقترحات بعين الاعتبار، حتى وإن كانت في صلب مصلحة الوطن والمواطن.
هذا السلوك جعل من البرلمان مؤسسة بلا فعالية، أشبه بغرفة تسجيل، تمرر فيها الحكومة قراراتها، دون رقيب حقيقي أو تفاعل جاد. لقد تم تعطيل معظم آليات الرقابة البرلمانية، وحُوِّلت قبة البرلمان إلى مجرد مسرح سياسي تُقصى فيه المعارضة، ويُحتقر فيه النقاش الديمقراطي.
وفي قلب هذا الواقع، لا يمكن إغفال ظاهرة أخرى تُضعف الثقة في العمل السياسي وتزيد من ضبابية المشهد الحزبي، وهي ظاهرة استنساخ البرامج الانتخابية بين مختلف الأحزاب، حتى بات المواطن غير قادر على التمييز بين من يرفع شعارات ليبرالية ومن يتبنى خطابًا اجتماعيا أو مرجعية اشتراكية. لقد صار الهدف الأوحد هو الحصول على المقاعد بأي خطابٍ كان، ولو كان مستعارًا من خصمٍ سياسي. فكيف يُعقل أن نجد أحزابًا تُعرّف نفسها بأنها ليبرالية تُردد شعارات العدالة الاجتماعية بنفس منطق الأحزاب التقدمية أو اليسارية،لقد صار الهدف الأوحد هو الحصول على المقاعد بأي خطابٍ كان، ولو كان مستعارًا من خصمٍ سياسي. فكيف يُعقل أن نجد أحزابًا تُعرّف نفسها بأنها ليبرالية تُردد شعارات العدالة الاجتماعية بنفس منطق الأحزاب التقدمية أو اليسارية، دون مضمون أو التزام فكري حقيقي؟ هذا التداخل المفتعل في الهويات الحزبية أفقد السياسة معناها، وأضعف ثقة المواطن في جدية الفاعلين.
والأسوأ، أن هذا المشهد ساهم بشكل مباشر في تعميق الهوة بين المواطن والسياسة . فالإحباط العام، والعزوف المتزايد، والخطاب التبخيسي المنتشر على مواقع التواصل، كلها نتائج لسلوك الأغلبية العددية المتغوّلة التي جعلت الناس يفقدون الثقة في المؤسسات المنتخبة، وفي جدوى المشاركة السياسية.
اليوم، المغرب في أمسّ الحاجة إلى أغلبية وطنية، تتسم بالحكمة، وتستوعب أن القوة لا تُقاس بعدد المقاعد، بل بمدى القدرة على بناء التوافق، وتقدير عمل المعارضة، وتشجيع المبادرات الجادة، واحترام أدوار الرقابة والمساءلة.
إن الظرفية الوطنية، وتحديات المستقبل القريب، تحتم علينا جميعًا ألا نضيع الوقت في نقاشات عقيمة لا تستحضر مصلحة الوطن، بل تنشغل بتقاسم الغنائم السياسية وتدبير التموقعات الحزبية الضيقة. نحن اليوم أمام لحظة مسؤولية تاريخية، وأي تهاون في إصلاح ما يمكن إصلاحه سيكون تخلفًا عن الموعد الوطني، وتفريطًا في فرصة قد لا تتكرر، وسيسجّله التاريخ كفصلٍ ضائع من زمن الإصلاح. الوطنية السياسية تبدأ من الكفاءة، والنضج، والقدرة على إعلاء المصلحة العامة فوق الحسابات الفئوية أو الشخصية. أما حين تُختزل الأغلبية في كائنات انتخابية همّها لقاء وزير لتحقيق مصلحة ضيقة، فذلك لا يمكن أن يبني دولة ولا مؤسسات. من هنا، فإن الطريق نحو أغلبية وطنية يبدأ بإصلاح مدونة الانتخابات، وضمان شفافيتها، والقطع الجذري مع كل مظاهر الفساد الانتخابي، التي أنتجت تمثيليات هجينة وأضعفت المؤسسة التشريعية.
نحن أمام لحظة مفصلية. فإما أن نعيد الثقة في السياسة عبر بناء أغلبية وطنية تُؤمن بالشراكة والتعدد، وإما أن نستمر في إنتاج أغلبية عددية تُقصي وتُهيمن وتزيد من تفاقم أزمة الثقة… وفي الحالتين، الاختيار بيدنا.

 

الكاتب : نورالدين زوبدي - بتاريخ : 02/09/2025