في فصل رصين بعنوان “عبوة قابلة للعشق” للباحث محمد مستقيم، يتعرض الباحث للأثر الفلسفي للموسيقى في تركيز البحث الدائم عن الطمأنينة في الوجود، حيث تشكل الرغبة في العودة دوما مأساة الإنسان، من العودة إلى الرحم إلى العودة إلى الجنان المفقودة. عودة بقدر ما تحمل من الإحساس بالأمان بقدر ما تفتح احتمال ارتكاب الخطيئة من جديد، في توقع استمرار محنة الدائرة في دورتها الحلزونية وقد ربطت بين البقاء والمأساة.
من قلب المقبرة، فضاء الموت، من بين شواهد للموتى تراصت قبور تحمل قرابة ما، تحيل إلى فاجعة أسرة قضت نحبها جماعة في لحظة درامية حلّت فجأة دون سابق إنذار.
من قلب الضباب والدخان يتسلل كائن هلامي يلاحقه ما يتبقى عادة من “نار” ملتهبة أتت على الأخضر واليابس داخل جوّ جنائزي يحيل إلى انبعاث ما، كطائر الفينيق ينبعث من رماده ليعيد سراديب الحكاية… لم تكن هناك غير رائحة الموت تلفها ذكرى ما، ثاوية خلف ترسبات الماضي، من وراء حجاب يشهد الخطوات الأولى لكائن يتلمس إيقاع هدوء ما تأتي به لحظة الكشف المتأخر لما وقع في زمن الصبا، وظل عالقا بالذاكرة الملعونة.
يعثر الكائن الهلامي على بابٍ قادته إليه صدفة خطاه الخارجة عن التعقل، بدافع لاشعور كامن في أوتار القيثارة التي يحملها على ظهره، وكأنه يعيد من جديد قصة البطل أورفيوس وهو يعصي قوى الجحيم بأنغامه، مصرا على إعادة الحكاية إلى نقطة الصفر. قيثارة تسير مباشرة للربط بالعنوان “نشاز” (Fausse note) بكل نشازها الوارد خللا في تناغم النوتات الموسيقية.
لم يكن خلف الكائن الهلامي غير رجل ملحي يراقب إعادة الأحداث من جديد، يترقب الخطى الحائرة، وبحضور بين التجلي والخفاء تتابع الابتسامة الساخرة للجد، كناية عن الأب الأول، خطى القدر الحمقاء، وهي تترصد تفقد الكائن الهلامي لمكان ما، يعرفه ولا يعرفه. رجل ملحي ببرنس يحيل إلى هيئة الراهب القديم… إيحاءات بدء كان هناك في الذاكرة الجماعية التي تأبى النسيان.
والكائن الهلامي يدخل الدرب المضبب بنظرات مرتابة، وكأنه يلتمس من ذاكرة في جوف تاريخه الشخصي أن تسعفه على تلمس البقايا… الآثار الموشومة التي حفزت الانبعاث المدهش… ليعيد، من حيث لا يدري، ألفة المكان المفقودة… نعم، كان هنا ولم يعد يذكر…
على مقعد مستطيل في الحديقة الخلفية، يقعد الكائن الضبابي، فإذا هو شاب في مقتبل العمر، يداعب أنغام القيثارة في هدوء المتمرن على أنينها، يلاعب أوتارها عل النغم يتكفل بإحياء النبرة القادرة على تشخيص المجرد الخارج من قلب القبور.
يقول مستقيم: “تنهض الموسيقى على تجريد المعاناة، وتزويد الكائن البشري بآليات العثور على النبرات المنبعثة من مملكة الأرواح المتألمة والمضطهدة والمعذبة”، فهل كان الكائن الهلامي، وقد تشخص شابا وسيما، روحا طاهرة تأتي كل عام لتحيي ذكرى الفقدان؟
هو النغم الذي يستقدم كائنا آخر يدعى “شهاب” بكل دلالة الاسم الموحي بلسان نار متطاير، شعلة من نار، وبتواز خلفي مع العين المراقبة للراهب وهو يمر صامتا يخلق تماثلا بين شخصيتين في حلتين مختلفتين: واحدة لروح حاضرة باستمرار، وأخرى لقرينها يعيد الماضي دفعة واحدة.
نغم يخرج باعتراف من الأعماق المنسية، فيخلق المودة المرجوّة، والحميمية المعثور عليها من جديد. يستدعى “كون”، العازف الوسيم، ضيفا على أسرة شهاب.
يدخل النغم شقة شهاب، ويتعرف الشاب على الأسرة، يتعرف على الابنة “قمر” بكل عنفوانها الباذخ المحيل إلى ضياء في ليل بهيم، وعلى الزوجة “نازك” بكل مشتقها النيزكي المستمد من شهب كونية ساطعة، تندلع وتحترق داخل الفضاء الممتد. هي الأسماء التي تحضر “النار” قبلا لترسم أفق انتظار ناري كان لفضاء المقبرة دخانه المتبقي بين القبور المصطفة… اشتعال داخلي يؤذن باحتراق، كذاك الاحتراق المتحكم في المبدأ الناري لهيراقليط وهو يلتهم العالم من حين لآخر كي يسمده لأفق منتظر.
لم يقدم شهاب الطفل الصغير القابع بكل براءته المندهشة بين “قمر” و”نازك”.
لم يكن الطفل جالسا في المقعد، كان وليدا فقده شهاب، وبفقدانه لم يعد العالم يستحق غير الاحتراق.
لم يقدم شهاب أيضا الرجل الجالس يتصفح الجريدة، كان الطفل جرحا في ذاكرة قمر، وكان رجل الجريدة والده الذي لا يساير محنة الأم الثكلى المكلومة. كانا معا كائنين من عالم آخر، معنيين بعالم الشقة من بعيد، إهمال يخلط الأزمنة في تواز بين ماض يأبى النسيان وحاضر يلفه الضباب، ولم تعد غير صور معلقة على الجدران توثق لوجوه كانت، ربما يتذكرها القادمون على غفلة من النهر الذي لا نستحمّ فيه مرتين.
ثم يحضر الدخان في علب قديمة تحفز الذكرى القديمة، و”ولاعة” سقطت سهوا فوق الطاولة كي تؤجج رغبة الأمّ في إحراق العالم بعد أن أحرق القدر الساخر كبدها… وكذلك كان لتختلط البداية بالنهاية، وليحتفي “كون” العائد من سديمه كل سنة بعيد ميلاده… فالتجدّد هنا ليس تطهيرا بل إعادة خلق المصير المأساوي الذي ينتظر الكائن في كل عودة: خروج من قلب النار ليعيد الاحتراق من جديد، لا ليخرج الكائن منتصرا كما رأى ذلك باشلار في “شعلة قنديل”، بل ليخرج مهزوما يعض على أنامله غيظا… وهو بالفعل ما عاشه الرجل صاحب الجريدة بانغماسه في الدنان الخمرية ليعيش الندم “الوجودي”، واللامبالاة المعيشية، ويحكي في صمته المخمور المدقع حكاية العودة المتخيلة للطفل المفقود، ذاك الطفل الذي لا يتسلح إلا بالنغم… الوتر القادر على إحياء المأساة من جديد… القنينة وحدها تختزل المأساة… تحكي القصّة من جديد لتشعل ما كان نشازا. فالاستثناء في حياتنا هو ما يخلق بإصرار ما سنعيشه مكرهين. فهل هي صدفة “الولاعة” أم ضرورة اللامبالاة؟ خيرناك فاختر يا صاحب “النشاز”!
بصوت غاضب يطرد الجار الطفل الطارق بابه المألوف، لم يكن غضبه إلا تعبيرا صارما عن الخوف من “تقليب المواجع”.
باندهاش أيضا يصر الطفل الراشد على طرق الباب، ملحا على تأكيد “النشاز” فينا.
قد كان محمد مستقيم في “عبوة قابلة للعشق” على حق حين قال: “من هذه التراجيديا تنهض العودة إلى النهر حيث المنابع لا تكف عن الصيرورة، وحيث يحتفل الكائن بدورة الحياة التي تكررت في الماضي، وستعود من جديد بنفس التفاصيل في المستقبل، وقد يحدث هذا إلى ما لا نهاية”…