بورتريه : عبدالكريم برشيد.. مسار نبوغ

 

جاءت هذه الصورة بمعالم واضحة، وبألوان مشرقة وفياضة، وبلا تحايل ، لتعكس لمسة الفنان الصادقة، و سخاء طبعه الذي جعله يتوج تكريم الدكتور عبد الكريم برشيد من خلال لوحة، تجسد بعدا أيقونيا رمزيا لرائد الاحتفالية، وتدعو توسيع مدار التمعن في رجل ملأ الدنيا وشغل الناس ، مما يعيد إنتاج” متنبي” المسرح من جديد.رجل منح الكثير للمسرح المغربي العربي على العموم ، نقش اسمه كرائد للمسرح الاحتفالي الذي يختزل في بعده الفلسفي رؤية خاصة للوجود، ومبعثا حيا للدفاع عن إنسانية الإنسان في كل مكان، وذلك ما أبانت عنه إبداعاته المسرحية التي تزاوج بين المسرحي و الاحتفال الفرجوي، جامعا بين النقد و التنظير و الإبداع عبر نصوص كثيرة ، حصدت المراتب الأولى في المهرجانات المسرحية التي تم تنظيمها سواء في المغرب ، أو خارجه.
فمن خلال هذا البورتريه أبى الفنان التشكيلي المغربي عبد المجيد اللياوي إلا ان يؤرخ لحدث تكريم ابن بلدته من طرف المنظمة المغربية للكشافة والمرشدات بالشارة الكشفية مبتغيا تحقيق المزاوجة بين “بادن باول” مؤسس الحركة الكشفية العالمية و برشيد مؤسس المسرح الاحتفالي العربي ، ويبعث إليه برسالة حب وتقدير ، ويوشحه بقلادة كشفية لما لها من دلالات، وما تحمله من أبعاد إنسانية تطبع رجلا يحب كل الناس ، ولد بمدينة أبركان سنة 1943 ، تشبع منذ طفولته بارتياد السوق الأسبوعي لمدينة ابركان، القريب من بيته ، إذ شغف بفن الحلقة التي كانت تقام في ساحة السوق حيث يستحضر الحكواتي (لحلايقي) السير الشعبية لعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن والزير سالم ، وقد ظهرت ملامح ذلك في جل نصوصه المسرحية مثل ” عنترة في المرايا المكسرة ” ، و شارك أقرانه تلك الألعاب البسيطة التي كانت تسود في زمن الأبيض والأسود ، ولكنه غالبا ماكان يتخلى عن اللعب و ينزوي في مكان ليقرأ كتابا أو مجلة صادفها، وهذه العادة لازمته حتى بعد مرحلة الطفولة ، حيث كتب جل مسرحياته في رمضان، لما يتسم به هذا الشهر من سحر لياليه، سيما وأن الكتابة الاحتفالية تبقى تلقائية ، و لاتتأتّى إلاّ إذا توفرت لها طقوس بكل حالاتها وبكل مقاماتها المختلفة.
كل تفصيلة صغيرة في اللوحة تعكس سمة رجل اجتماعي بطبعه، يكسر الحجارة من أجل معانقة الناس وفضاءاتهم ؛ أولم تؤكد ذلك مسرحيته ” الناس والحجارة “.
أنيق في مظهره ، ومتألق بفكره ، وثاقب بنظرته للحياة، فنادرا ما يتخلى عن نظاراته التي تمنحه القوة ، وتجعله لايتعب من القراءة والكتابة. لكن في مقابل ذلك ينزع نظارته في الإبداع ، لأنه لايريد أن يرى العالم من وراء الزجاج ، إذ يرصد من خلال منظوره الخاص جوهر الأشياء التي تحرك في داخله حافز الكتابة ، وتثير اهتمامه في المجتمع.هذا الانفتاح على الناس والمجتمع جعل كل صاحب نكتة يجالسه ، يذكي فيه روح المرح، ويصبح في مسرحياته بطلا يرفه عن الناس، ناهيك عن الشخصيات المستوحاة من التراث الشعبي وهو مايبدو واضحا في” ثلاثيته الجحوية” ،علاوة على توظيف شخصية المداح الذي جعله يطوف في الأسواق ، وينتقل من مدشر إلى آخر ليتغنى بقصة ميلودة وابنها، ميلودة بنت ادريس ، وذلك في قالب احتفالي من خلال عرض اكتسب طابع الفرجة المسرحية، إذ استغل مجموعة من الأشكال التعبيرية، سمحت للممثلين أن يلعبوا أدوارهم بتلقائية ، ورؤية عيدية على الركح دون الخروج عن النص.
ابتسامته المكتومة تخفي عدم رضاه عن واقع المسرح المغربي، وما أصابه حاليا من ارتجال وابتذال، وتسريحة شعره وزيه الجديد ، يكرس نظرته للمسرح كيوم عيد، حيث تدب الفرحة فيه بين الناس ، وكل شعرة بيضاء غزت رأسه تحمل هما مسرحيا ، مما يجعله يستمر في الإبداع، كما أن تقدمه في السن لم يمنعه من تجديد السؤال المسرحي والفكري ، فهو ماض في التنظير والبحث والتأليف ، مما أغنى الخزانة العربية بعدة إصدارات، توزعت بين نصوص مسرحية وكتابات نقدية ، تجاوز صيتها الحدود العربية بعد ترجمتها إلى لغات عالمية مختلفة.
ولإضفاء لمسة دافئة على هذا البورتريه ، عمل الفنان على إنشاء خلفية غامضة لتسليط الضوء على شخصية فذة، تم توظيبها باستعمال لونين محايدين، يعكسان سمة رجل رزين ، يظهر في الصورة بجبين عريض يعزز فراسته وعبقريته، وعينين يأخذان حجمهما من نافذتين مفتوحتين على هذا العالم الغامض ، ينبثق منهما بريق يبعث على التفاؤل، ونظرة لاتميز بين الماضي والحاضر ، حيث تلتقي كل الأبعاد الزمنية فيها، كي تستدعي شخوصا من التراث والتاريخ العربي ، مثل ابن الرومي ، وعطيل وامرئ القيس، وغيرهم ، أخذوا حيزا مهما في مسرحياته.ولولا هذه النظرة والرؤية الواسعة التي يتميز بها لما كان كاتبا مسرحيا ، بل كان مجرد كاتب تقارير وإعلامي ينقل الأخبار فقط كما صرح بذلك سابقا ، وذلك ما لا يرضاه لنفسه، ولذلك، سخر ملكته وكل ما يملك من علم وثقافة لخدمة المسرح المغربي والارتقاء به.
تتوالى مداخلاته في اللقاءات الثقافية و المنابر الإعلامية ، ولكنها تنصب كلها في مجال فني احتفالي، حيث نذر حياته لخدمته من خلال نظريات ودراسات نقدية،جاءت على شكل بيانات جمعها في كتاب سماه المسرح الاحتفالي ، وعبر نصوص ذات طابع تجريبي ، رسخت هويته كمسرح صحراوي، حيث يبقى فيه الإنسان يواجه منطق الغلبة للأقوى ، ويتحدى قساوة الطبيعة بعواصفها الرملية وقحطها، ولذلك تجد هذا الإنسان يحاكي الواقع على عكس إنسان المسرح اليوناني الأسطوري الذي يصارع غضب الآلهة.
إنسان / عبد الكريم برشيد هو جزء منه ، يعيش بيننا ، يقاسمنا السراء والضراء ، يعبث بنا ونعبث به، يسخر من صمتنا المطلق ، فيه شيء من الطفولة التي عاشها محروما من والده الذي ورث عنه الوقار والوطنية، وفيه أيضا شيء من قلق والدته الفاسية التي قررت أن ترحل به إلى فاس، وهو ما زال في سن مبكرة ليعيش مع أخواله الذين أشرفوا على تربيته، وساعدوه على متابعة دراسته.فتفتحت عيناه على جامع القرويين، وأسوار المدينة العتيقة و حصونها ، ومكتباتها وخزاناتها، مما رسخ فيه حب البحث العلمي.
مسؤوليته في منصب مندوب جهوي للشؤون الثقافية بمدينة الخميسات لسنوات قبل تقاعده، لم تمنعه من مواصلة دراسته الجامعية بعزم وإصرار وطموح إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه بجامعة مكناس.
لم تأخذ منه الأعوام شيئا من حيويته، حيث لازال يؤطر ويشرف على التكوين ، ويسافر من مدينة إلى أخرى لحضور ندوات ولقاءات ثقافية التي يتم تنظيمها بين الفينة والأخرى حاملا معه محفظته التي لاتفارقه حتى وإن كان في لحظة استرخاء مع أصدقائه بأحد المقاهي ليرشف كأس الشاي المنعنع الذي يحبه.
إن الأستاذ عبدالكريم برشيد يحيط به الحب من كل الجهات، من المحيط إلى الخليج، ولكن هذا الحب يجتمع كله ليجده في بيته بالدار البيضاء ، وسط أسرته، إلى جانب أم أطفاله الأربعة.
قوة هذا البورتريه تكمن في مهابة الوجه وملامحه والتعبير الرصين عليه، حيث أن الرسام لم يكلّف خاطره التركيز على الخلفية ، وتسليط الضوء عليها، كما فعل في لوحات أخرى، فقد رسمه اعتمادا على خطوط وضربات فرشاة عريضة ، وطبقات لونية لتتحمل حجم الوقار الذي يميز هذه الشخصية الفذة التي تمتد بامتداد حلم المدن العربية ، والشامخة شموخ الأطلس حيث تعلو الزغاريد لتصبح أحد مسرحياته”عرس الاطلس” شاهدة على ذلك.
تلك قطرة من غيث وموجة من بحر ، فمابالكم حينما يلتقي المتوسط بالمحيط؟ا


الكاتب : عبدالسلام صديقي

  

بتاريخ : 12/09/2025