شهد الإبداع الأمازيغي خلال السنوات الأخيرة حركية متصاعدة، جعلته يحتل مكانة وازنة داخل المشهد الثقافي المغربي. فبعد أن ظل لسنوات طويلة محصورا في بعض المجالات، أو مهمشا في بعض المنابر، أضحى اليوم رقما أساسيا في المعادلة الثقافية. هذا الحضور لم يأت من فراغ، بل كان ثمرة اجتهاد فنانين ومبدعين آمنوا بجدوى الدفاع عن هويتهم، فقدموا أعمالا راسخة في الشعر والرواية والموسيقى والمسرح والنقد، أعمالا تستمد جمالها من الأصالة، وقوتها من الخصوصية، ووهجها من عمق الانتماء.
الحوار بوصفه استنطاقا للعمق:
الحوار ليس مجرد لقاء صحفي عابر أو أسئلة روتينية، بل هو فعل ثقافي بامتياز. فمن خلاله يستدرج المبدع إلى الكشف عن خبايا تجربته، وعن المعاناة التي ترافق فعل الإبداع، وعن الرهانات التي يضعها لفنه ودوره في المجتمع. الحوار مساحة صادقة، لا تحكمها قيود، حيث يقول الفنان ما لم يتسن له قوله على المنابر، ويبوح بما يزعجه، أو بما يحلم أن يتحقق في المستقبل. وهو، في الآن ذاته، جسر للتواصل مع الجمهور، الذي يكتشف عبره المبدع في لحظات عفويته وضعفه وجرأته.
خير الدين الجامعي: الصحفي المؤرخ
الصحفي خير الدين الجامعي أدرك مبكرا قيمة هذا الفعل الثقافي. لذلك اختار أن يجعل من الحوار أداة للتوثيق وحفظ الذاكرة، وليس مجرد مادة صحفية للاستهلاك اليومي. فقد نشر سلسلة من الحوارات مع فنانين ومبدعين أمازيغ في جريدة العالم الأمازيغي، ثم عمل لاحقا على جمعها في كتاب موسوم بـ» إيقاعات أمازيغية». بهذا الاختيار، ارتقى بالعمل الصحفي إلى مرتبة التوثيق التاريخي، إذ إن ما يقال في الحوار قد يندثر مع مرور الوقت، لكنه حين يجمع في كتاب يصبح جزءا من المكتبة المغربية، ومرجعا يمكن للباحثين والمهتمين العودة إليه.
هذا الكتاب يتيح للقارئ أن يتجول في عوالم شعراء وروائيين وموسيقيين ونقاد أمازيغ، وأن يكتشف أصواتا قد لا تتاح له فرصة الاقتراب منها إلا عبر هذا النوع من التوثيق. إنه ليس فقط نصوصا للحوار، بل هو شهادات حية، ونبض تجربة إبداعية تسعى لأن تجد مكانها في الخارطة الثقافية الوطنية.
قيمة العمل وأثره:
تكمن أهمية» إيقاعات أمازيغية» في كونه لا يقتصر على تقديم أسماء ووجوه إبداعية، بل يقدم أيضا صورة عن التحولات التي عرفها المشهد الأمازيغي، وعن رهاناته المستقبلية. فهو مرجع يمكن أن يستند إليه الطلبة والباحثون في دراساتهم، كما يمكن أن يشكل مادة للقراء المهتمين بالثقافة المغربية في تعدديتها. والجميل في هذا العمل أنه لا يخاطب الأمازيغ وحدهم، بل يخاطب المغاربة جميعا، بل وحتى كل قارئ عربي، لأن الثقافة الأمازيغية جزء لا يتجزأ من الهوية المغربية المشتركة، التي قامت على التلاقي والامتزاج بين العرب والأمازيغ.
خاتمة:
إن مبادرة خير الدين الجامعي هي أكثر من مجرد إصدار كتاب، إنها مساهمة في صون ذاكرة الإبداع الأمازيغي، وضمان حضوره في المكتبات والأذهان. وبفضل هذا الجهد، تظل أصوات المبدعين حية، حاضرة، وملهمة للأجيال المقبلة. ولعل هذا ما يمنح الكتاب قيمة مضاعفة: فهو شهادة على الحاضر، وأرشيف للمستقبل، ودليل على أن الثقافة حين تتجذر في هويتها تصبح قادرة على التحاور والانفتاح والخلود.