في المشهد الثقافي العربي، تتكرر مع كل عمل فني جريء موجة من الهجوم، لا تستند إلى أدوات النقد الفني، بل إلى منطق ديني أو أخلاقوي يحمل الفن مسؤولية «الإخلال بالحياء العام» أو «تهديد القيم». ويتم التعامل مع المسرح على وجه الخصوص كما لو كان ساحة وعظ أو منصة دعوية، لا فضاء حر للتساؤل والمواجهة.
هذا النمط من الرقابة غالبا لا يكون رسميا، بل مجتمعي، حيث تطلق الأحكام الأخلاقية قبل فهم بنية العمل الفني أو لغته أو رمزيته. يحاكم النص لا لضعف في معالجته، بل لأنه «تجرأ» على المسكوت عنه أو تجاوز ما يعتبر «مقدسا» أو «غير لائق».
لكن، هل وظيفة الفن أن يهادن؟ أن يتكيف مع ما هو مقبول اجتماعيا؟
في قلب هذا السؤال، تبرز قضية مركزية تُهاجم باسم «الحياء» و»القيم»، وهي قضية تحرر جسد المرأة داخل الأعمال الفنية، خصوصا المسرحية. حين توظف المرأة جسدها في العمل الفني، ليس بوصفه موضوعا إغرائيا بل كوسيط تعبيري، تواجه تهمة «العري» أو «الانحلال»، وكأن الجسد إذا خرج من عباءة الطاعة يصبح تهديدا يجب إسكاتُه. بينما هو، في حقيقته الفنية، لغة. الجسد على خشبة المسرح ليس عورة، بل نص موازٍ يعبر عن القمع والانكسار والرغبة والرفض. ومن المفارقات أن تمنح الشخصية الذكورية مساحة للتعبير الجسدي دون اعتراض، بينما تحاكم المرأة إذا جسدت تجربتها بصدق. كأن التعبير الجسدي حكر على السلطة الذكورية، أو لا يصبح فنيا إلا إذا خلا من أنوثة.
تحرير جسد المرأة في الفن ليس فعلا فاضحا، بل فعل مقاومة. مقاومة للسلطة التي لا تخاف من الجسد بقدر ما تخاف من حريته.
المفكر نصر حامد أبو زيد، الذي اشتبك مع قضايا النص والدين والحداثة، قال بوضوح: «لا حرية للدين بدون حرية للفكر». والفن أحد أوجه هذا الفكر، لأنه يعبر عن الذات الجمعية بطرق رمزية واستعارية لا يمكن اختزالها في معايير الحلال والحرام.
ومن جانبه، يرى عبد الله العروي أن «الحداثة ليست تبني نمط حياة معين، بل هي قبول بالتعدد، وبالاختلاف، وبحق السؤال». أي أن الفن الحداثي بطبيعته يجب أن يكون مزعجا، لأنه يعيد ترتيب الأسئلة، لا لأنه يقدم أجوبة مريحة.
أما محمود درويش، فكان يرفض تصنيف الشعر ضمن «الرسائل الأخلاقية»، بل يرى أن مهمة الفن هي «أن يربك النظام لا أن يعيد إنتاجه». وهذا ما ينطبق على المسرح باعتباره أكثر الأجناس الأدبية اتصالا بالواقع المعيش وأكثرها عرضة للتأويل والتجريم.
إن محاكمة الأعمال الفنية على أساس ديني أو أخلاقي تنذر بخطر أعمق: تديين المجال الثقافي وتحويل النقاش حول الجمال والمعنى إلى نقاش حول الفضيلة والسلوك. وهذا يحول الفن من تجربة إنسانية إلى مادة وعظية.
حين يطلب من المسرح أن «يحترم القيم»، يجب أن نطرح السؤال المقابل: من يحدد هذه القيم؟ ومن يملك سلطة فرضها؟ هل هي قيم جمالية أم مفاهيم أخلاقية عائمة؟ هل نحن أمام عمل فني يجب تفكيكه أم أمام «فتوى» تنتظر من جمهور لا يفترض به أن يفكر، بل أن يسلم؟
الفن ليس مسجدا ولا مدرسة. لا يعلم الناس كيف يكونون «صالحين»، بل يضعهم أمام أنفسهم: بانكساراتهم، تناقضاتهم، ورغباتهم.
الجرأة في الفن ليست رذيلة، بل ضرورة. لأن التقدم لا يحدث إلا بكسر القوالب، لا بتقديسها.
إن حماية الفن لا تعني الانفلات، بل تعني خلق بيئة تسمح بالاختلاف، وتدافع عن حق الفنان في أن يفكر، يتخيل، ويجرب.
وهذا الحق، في النهاية، ليس ترفا، بل هو وجه من وجوه الحرية.
الفن في مواجهة الوصاية: دفاع عن التعبير ضد الرقابة الأخلاقوية

الكاتب : علي الخزار
بتاريخ : 23/09/2025