إصلاح المنظومة الانتخابية 2026: الاتحاد الاشتراكي بين الرؤية السياسية والاقتراحات العملية

محمد السوعلي(*)
لماذا تقدم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمذكرة شاملة لإصلاح المنظومة الانتخابية؟ وهل يتعلق الأمر بمجرد تفاصيل قانونية، أم أننا أمام رهانات وطنية تحدد مصداقية التجربة الديمقراطية في المغرب؟ وما الغاية من هذه التعديلات: هل هي تحسين القوانين التنظيمية فقط، أم إعادة بناء الثقة بين المواطن وصندوق الاقتراع؟ ثم إلى أي أفق تسعى هذه المقترحات أن تقودنا: انتخابات أكثر نزاهة وشفافية، أم أكثر من ذلك تأسيس لمرحلة جديدة من الدولة الاجتماعية والديمقراطية الحديثة؟
هذه الأسئلة تلخص جوهر النقاش الذي يطرحه الاتحاد الاشتراكي اليوم، وهو أن الإصلاح الانتخابي لم يعد خيارًا تقنيًا، بل ضرورة سياسية وسيادية لضمان نجاح المسلسل الديمقراطي، وتحصين مسار الإصلاحات التي يقودها المغرب في مختلف المجالات. فالمذكرة التي قدمها الحزب لا تنفصل عن رهانات المشاركة الشعبية، وتجديد النخب، ومحاربة المال الفاسد، والتصدي للتأثيرات الرقمية الجديدة، وتسعى بالتالي إلى بلورة رؤية شاملة تجعل من استحقاقات 2026 نقطة تحول حقيقية في مسار الانتقال الديمقراطي.
البعد السياسي والديمقراطي للمذكرة: رؤية اتحادية لتجديد الثقة وتحصين الخيار الديمقراطي
المذكرة لا تقف عند مستوى التوصيات القانونية، بل تحمل تصورًا سياسيًا وديمقراطيًا متكاملًا. فهي تنطلق من قناعة بأن العملية الانتخابية ليست حدثًا معزولًا في يوم الاقتراع، بل مسار طويل يبدأ من تسجيل الناخبين ويمتد إلى إعلان النتائج وتدبير المؤسسات المنبثقة عنها. ومن ثم، فإن أي إصلاح جزئي أو انتقائي لا يمكن أن يحقق الغاية المرجوة في بناء الثقة، بل يقتضي الأمر معالجة شاملة تمس جميع الحلقات.
كما أن الوثيقة تستحضر التحولات العميقة التي يعيشها المغرب داخليًا وخارجيًا:
• داخليًا: هناك حاجة إلى تجديد النخب السياسية، تقوية تعددية حزبية حقيقية تعكس التوجهات التي يعيش على وقعها المجتمع، ومحاربة الامتيازات والفساد الانتخابي.
• خارجيًا: تبرز أهمية الرهانات الوطنية الكبرى مثل قضية الصحراء المغربية، التي وصلت إلى مرحلة حاسمة في الأمم المتحدة مع الاعتراف الدولي المتزايد بمقترح الحكم الذاتي، ما يتطلب مؤسسات تمثيلية قوية وذات مصداقية.
الاتحاد الاشتراكي، من موقعه كقوة معارضة مسؤولة، يربط بين الإصلاح الانتخابي وبناء الدولة الاجتماعية. فالتنمية، العدالة المجالية، ومحاربة الفوارق لا يمكن أن تتحقق في ظل مؤسسات منتخبة ضعيفة أو فاقدة للشرعية الشعبية. لذلك جاءت المذكرة لتطرح مشروعًا ديمقراطيًا متكاملًا لا يفاضل بين محور وآخر، بل يعالج كل عناصر المنظومة على أساس المساواة في الأهمية والضرورة.
النزاهة تبدأ من الإشراف واللوائح: قاعدة الثقة في المسلسل الديمقراطي.
يرى الاتحاد الاشتراكي أن النزاهة تبدأ أولًا من الإشراف المستقل على العملية الانتخابية، لذلك يقترح تفعيل اللجنة الوطنية للانتخابات بصلاحيات تقريرية، مدعومة بلجان جهوية وإقليمية تراقب جميع المراحل، من التسجيل إلى إعلان النتائج.
ويعتبر الحزب أن بناء لوائح انتخابية نظيفة هو أساس الثقة، ولهذا يدعو إلى اعتماد بطاقة التعريف الوطنية كقاعدة أوتوماتيكية للتسجيل، مع إدراج الشباب بشكل تلقائي عند بلوغهم 18 سنة، ومنح رقم انتخابي دائم لكل ناخب. كما يشدد على ضرورة إيداع اللوائح النهائية لدى المحاكم الابتدائية لضمان الشفافية وإمكانية الطعن، مع تحيينها سنويًا عبر تنسيق بين الحالة المدنية والقنصليات، حتى تشمل التشطيب على المتوفين وتغيير العناوين وتصحيح الأخطاء.
هذه التدابير ليست تقنية فقط، بل هي رهان سياسي لقطع الطريق أمام كل أشكال التلاعب، والقطع مع ممارسات الماضي التي أنتجت لوائح غير محينة تضم أسماء متوفين، أو مسجلين غادروا دوائرهم، أو تكرارات متعمدة أضعفت مصداقية العملية الانتخابية.
التقطيع والترشيحات: عدالة تمثيلية وكفاءة انتخابية
التقطيع الانتخابي ليس مجرد مرسوم تقني يرسم حدود الدوائر، بل هو ركيزة أساسية لتحقيق العدالة التمثيلية وضمان المساواة بين أصوات المواطنين. لذلك يقترح الاتحاد الاشتراكي اعتماد الاقتراع باللوائح من خلال دوائر محلية، وأخرى مخصصة للنساء، ودائرة خاصة بمغاربة العالم، مع توزيع المقاعد وفق معطيات الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024، ومراعاة البعد المجالي في المناطق الشاسعة.
ويؤكد الاتحاد أن الإبقاء على دوائر صغيرة من مقعدين أو ثلاثة فقط لم يعد مقبولًا، لأنها تشكل المدخل الأول لفساد العملية الانتخابية، حيث يسهل فيها استعمال المال الحرام لشراء الأصوات. لقد بُني هذا النمط من التقطيع لخدمة أصحاب النفوذ المالي أكثر مما يخدم الناخبين، وهو ما يستوجب القطع معه نهائيًا.
أما على مستوى الترشيحات، فيؤكد الاتحاد الاشتراكي أن المعركة الانتخابية لا ينبغي أن تُختزل فيمن يملك المال، بل في من يملك الكفاءة والقدرة على خدمة الصالح العام. لذلك يطالب الحزب باشتراط الكفاءة إلى جانب الأهلية القانونية، وخفض سن الترشح إلى سن الرشد القانونية بدل 21 سنة، انسجامًا مع الفصل 30 من الدستور وإدماجًا للشباب في الحياة السياسية مبكرًا.
كما يقترح إدراج التصريح بالممتلكات ضمن القانون التنظيمي لمجلس النواب، تكريسًا للشفافية ومنع تضارب المصالح. ويرى الاتحاد أن القطع مع ثقافة “مول الشكارة لي غادي يجيب الدائرة” هو المدخل الرئيسي لتشجيع الكفاءات. غير أن ذلك يقتضي في المقابل توفير آليات دعم منصف للأحزاب التي تختار منح التزكيات للكفاءات بدل أصحاب المال، سواء في الدوائر الفردية أو ضمن اللوائح الوطنية والجهوية.
التمثيلية والمشاركة: نحو إدماج النساء والشباب ومغاربة العالم
من أبرز اختلالات التجربة الانتخابية المغربية ضعف تمثيل النساء والشباب. لذلك يقترح الاتحاد رفع نسبة النساء إلى ثلث مقاعد البرلمان (132 مقعدًا) في أفق المناصفة، وربط جزء من الدعم العمومي بعدد المقاعد التي حصلت عليها النساء والشباب والأشخاص في وضعية إعاقة، بما يحفز على إدماجهم الفعلي.
كما يشدد الحزب على إشراك مغاربة العالم عبر دائرة خاصة ولوائح قنصلية، مع التسجيل التلقائي والتصويت المباشر في السفارات والقنصليات، وهي ممارسة معمول بها في تجارب دولية مثل تونس وفرنسا. أما الإعلام العمومي، فيجب أن يتحول إلى فضاء حقيقي للتعددية والنقاش العمومي، بدل أن يبقى مجرد قناة للتواصل الأحادي.
الحملة الانتخابية والاقتراع والطعن: ضمان المنافسة النزيهة وضبط العملية الانتخابية
لضمان نزاهة الحملات، يقترح الاتحاد تقنين تشغيل الأجراء بسقف لا يتجاوز ثلث النفقات القانونية، منعًا لتحويلها إلى وسيلة لشراء الأصوات. كما يدعو إلى منع نشر استطلاعات الرأي خلال الحملة في غياب قانون منظم.
وفي يوم الاقتراع، يقترح وضع معيار قانوني لتحديد عدد مكاتب التصويت، ومنع تعيين موظفي الجماعات رؤساء لها في دوائر عملهم، ونشر اللوائح قبل الاقتراع بعشرة أيام. كما يؤكد على حضور ممثلي المترشحين في كل المراحل، وتمكينهم من نسخ محاضر موقعة فورًا، والاحتفاظ بجميع الأوراق الانتخابية حتى انتهاء البت في الطعون.
أما الطعون، فيجب أن تظل حكرًا على المترشحين أو الأحزاب المعنية مباشرة، حمايةً للقضاء من الدعاوى الكيدية وتسريعًا للحسم.
التمويل والتنافي والعقوبات: ربط المسؤولية بالمحاسبة وضمان الشفافية
يشدد الاتحاد على ضرورة إعادة بناء منظومة التمويل على أسس موضوعية تراعي الوزن التمثيلي للأحزاب، وفق ضوابط شفافة للصرف والمراقبة. كما يقترح اعتبار أوراق التصويت والمحاضر وثائق رسمية وتجريم تزويرها، مع تشديد العقوبات على استغلال وسائل الدولة والمال الانتخابي، ومضاعفة العقوبات على العنف الانتخابي.
أما في ما يخص حالات التنافي، فيدعو الحزب إلى منع الجمع بين المسؤوليات الانتدابية، وتجريم تضارب المصالح مع المؤسسات العمومية والجماعات داخل الدائرة الانتخابية، مع التجريد الفوري من العضوية عند ثبوت الاستغلال غير المشروع.
الرقمنة والنزاهة المستقبلية: مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي في العملية الانتخابية
يرى الاتحاد أن انتخابات 2026 ستواجه تحديًا جديدًا هو النزاهة الرقمية. فاستعمال الذكاء الاصطناعي والحملات الرقمية قد يتحول إلى وسيلة للتأثير غير المشروع عبر الحسابات الوهمية والمحتوى المفبرك. لذلك يقترح إعداد قانون إطار خاص بالذكاء الاصطناعي في المجال الانتخابي، وإحداث هيئة وطنية مستقلة للرقابة الرقمية، وإطلاق منصة وطنية للتمويل الرقمي.
كما يدعو إلى توقيع ميثاق وطني للأخلاقيات الرقمية يحظر الحسابات الوهمية، ويُلزم المترشحين بالتصريح بأدواتهم الرقمية. وإلى جانب ذلك، يؤكد الحزب أن إدماج الأمازيغية في الفضاء الرقمي الانتخابي استحقاق دستوري، عبر محتوى بتيفيناغ وروبوتات دردشة بالأمازيغية، مع ربط جزء من التمويل العمومي بتعدد اللغات.
استحقاقات 2026: بين فرصة الإصلاح وخطر العزوف
إن مراجعة المنظومة الانتخابية يعتبر ورشًا استراتيجيًا يعيد بناء الثقة بين المواطن وصناديق الاقتراع. فالأرقام تكشف أزمة مشاركة وتمثيلية، وتنامي نفوذ المال والتأثير غير المشروع، فيما التحديات الرقمية تفرض يقظة جديدة.
مذكرة الاتحاد الاشتراكي، بما تضمنته من تحليل سياسي ومقترحات عملية، تقدم خريطة طريق متكاملة: من الإشراف واللوائح، إلى التقطيع والترشيحات، ثم التمثيلية والمشاركة، فالحملة والاقتراع والطعن، وصولًا إلى التمويل والتنافي والعقوبات، وأخيرًا النزاهة الرقمية. وهي بذلك لا تسعى فقط إلى تعديل بعض القوانين، بل إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة الديمقراطية على أسس المصداقية والعدالة والشفافية.
فالانتخابات المقبلة لن يُقاس نجاحها بعدد المقاعد فحسب، بل بقدرتها على استعادة ثقة المواطن في أن صوته له وزن وقيمة. والإصلاح الشامل هو الطريق الوحيد لتحقيق ذلك. فإما أن يُعتمد هذا النهج المتكامل في الإصلاح، فنكون أمام فرصة تاريخية لبناء ديمقراطية حديثة ودولة اجتماعية قوية، أو نستمر في إعادة إنتاج أزمة الثقة والعزوف، وهو ما لا يخدم الدولة ولا المجتمع.
الكاتب الإقليمي للاتحاد الاشتراكي – تطوان(*)
الكاتب : محمد السوعلي(*) - بتاريخ : 23/09/2025