قراءة في مذكرة الاتحاد الاشتراكي: إصلاح انتخابي أم رهان على تجديد السياسة؟
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع(*)
منذ عقود، ظل النقاش حول إصلاح المنظومة الانتخابية في المغرب أحد أعقد الملفات وأكثرها حساسية، لأنه لا يرتبط فقط بالآليات التقنية لانتخاب ممثلين في البرلمان، بل يمسّ جوهر العملية الديمقراطية ومصداقيتها، أي السؤال البسيط والعميق في آن: كيف نضمن أن صوت المواطن هو الذي يحدد فعلا شكل المؤسسات واتجاه السياسات؟
في هذا السياق، أطلّ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمذكرة مفصلة حول إصلاح المنظومة العامة المؤطرة لانتخاب أعضاء مجلس النواب لسنة 2026. مذكرة جاءت في ظرفية سياسية دقيقة، حيث تتقاطع التحولات الداخلية – من تصاعد الحراك الاجتماعي وتراجع الثقة في الأحزاب – مع التحولات العالمية التي فرضت الرقمنة والذكاء الاصطناعي كعناصر حاسمة في تشكيل الرأي العام.
1. في العمق الدلالي للمذكرة
المذكرة ليست مجرد “وثيقة تقنية” أو مقترحات إجرائية حول اللوائح، التقطيع، الحملات، أو الطعون الانتخابية، إنها محاولة لالتقاط لحظة سياسية جديدة، حيث لم يعد ممكنا إدارة العملية الانتخابية بنفس الأدوات التقليدية: تسجيل يدوي، مراقبة جزئية، وحملات انتخابية مشبعة بالمال.
فالمذكرة تستحضر بقوة البعد الرقمي والحوكمة الأخلاقية، من خلال الدعوة إلى:
* منصة وطنية موحدة للبيانات الانتخابية.
* إدماج الذكاء الاصطناعي في التسيير الإداري.
* إنشاء هيئة مستقلة لمراقبة الحملات الرقمية.
* توقيع ميثاق وطني للأخلاقيات الرقمية.
بهذه الإضافات، يبدو أن الحزب يقرأ التحولات القادمة في صميم العملية الديمقراطية: لم يعد التلاعب بالناخب يتم فقط بالمال أو بالولاءات التقليدية، بل صار يتم بخوارزميات قادرة على إعادة تشكيل الرأي العام في ثوان.
2. الرهان على الثقة المفقودة
من بين الأبعاد البارزة في المذكرة: استعادة الثقة. الثقة التي اهتزت بين المواطن والمؤسسات، والتي أصبحت أحد أكبر التحديات أمام أي إصلاح سياسي. الحزب يدرك أن النقاش حول التقطيع أو سن الترشح (18 أو 21 سنة) أو اللوائح الخاصة بمغاربة العالم، لا يكفي إذا لم يُطرح السؤال الجوهري: كيف نعيد الاعتبار للسياسة كأفق للتغيير؟
من هنا يمكن قراءة تركيز المذكرة على:
* التسجيل التلقائي للشباب ابتداءً من سن 18.
* دوائر انتخابية خاصة بالنساء ومغاربة العالم.
* ربط الدعم العمومي بنسبة المقاعد المحصل عليها من طرف النساء والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة.
هذه مقترحات تحمل رسالة سياسية واضحة: لا ديمقراطية بدون تجديد النخب.
3. الإصلاح بين التقنية والسياسة
قد يغري حجم التفاصيل في المذكرة القارئ باعتبارها “تقنية” أكثر مما هي سياسية. لكن القراءة العميقة تكشف العكس: كل اقتراح تقني يخفي خلفه معركة سياسية.
* التقطيع الانتخابي ليس مجرد تقسيم جغرافي؛ إنه سؤال العدالة التمثيلية.
* اللوائح الانتخابية ليست مجرد بيانات؛ إنها بوابة لتوسيع المشاركة أو تضييقها.
* العقوبات ضد الفساد الانتخابي ليست مجرد جزاءات؛ إنها اختبار لإرادة الدولة في مواجهة المال السياسي.
إذن، المذكرة تُعيد تسييس النقاش حول القوانين الانتخابية، وترفض اختزاله في مجرد ترتيبات تنظيمية.
4. الرقمنة… الوجه الجديد للمعركة
الجرأة الأبرز في المذكرة هي التنبيه إلى المخاطر القادمة مع الذكاء الاصطناعي.
فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط بتزييف المحاضر أو شراء الأصوات في الأحياء الهامشية، بل بتزييف العقول والوجدان.
ماذا لو أصبح الناخب يتعرض طوال الحملة الانتخابية لمحتويات رقمية موجّهة بدقة لخداعه؟ ماذا لو تحولت الانتخابات إلى حرب خوارزميات بين شركات دعائية؟
المذكرة هنا تضع إصبعها على الجرح: الديمقراطية المغربية قد تُسرق ليس في الصناديق، بل قبلها بكثير، في الشاشات والهواتف.
5. الشباب في قلب الإصلاح
الحديث عن الشباب في المغرب صار من أكثر المواضيع استهلاكا، لكن الجديد في المذكرة هو ربط مشاركة الشباب بآليات قانونية ومالية ملموسة: التسجيل التلقائي، دعم مالي مرتبط بعدد المقاعد المحصل عليها من طرف شباب، خفض سن الترشح إلى 18.
هذا ليس مجرد “خطاب إنشائي” عن الشباب، بل مقترحات يمكن أن تغيّر الخريطة السياسية، لو تم اعتمادها فعلا.
6. أسئلة نقدية مفتوحة
رغم الطابع الشمولي للمذكرة، فإنها تثير عددا من الأسئلة التي ينبغي طرحها بجرأة:
هل يكفي إدراج مقترحات تقنية دون ضمان إرادة سياسية حقيقية لتطبيقها؟
ما جدوى العقوبات الصارمة إذا بقيت أجهزة المراقبة عاجزة أو مترددة في تفعيلها؟
هل تستطيع الأحزاب المغربية، ومنها الاتحاد الاشتراكي نفسه، أن تجدد نخبها بما يتناسب مع هذه الإصلاحات، أم أننا أمام مقترحات متقدمة لواجهة حزبية ما زالت تشتغل بعقلية قديمة؟
كيف يمكن الانتقال من “مذكرات إصلاحية” إلى “توافق سياسي وطني” حول الديمقراطية كأفق مشترك، لا كساحة لتبادل المناورات؟
7. الخلاصة: إصلاح انتخابي أم تجديد سياسي؟
في المحصلة، مذكرة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول إصلاح المنظومة الانتخابية تفتح أفقا جديدا للنقاش الوطني.
إنها وثيقة لا يمكن اختزالها في بعدها الإجرائي، بل تحمل تصورا سياسيا واضحا: الديمقراطية المغربية بحاجة إلى ثقة جديدة، وشفافية جديدة، وأجيال جديدة.
لكن التحدي الحقيقي ليس في صياغة المذكرات، بل في قدرتها على فرض نفسها داخل لعبة سياسية معقدة، حيث تتداخل مصالح الدولة، حسابات الأحزاب، وانتظارات الشارع.
إن السؤال الأعمق الذي تطرحه المذكرة – والذي ينبغي أن يؤطر النقاش العمومي – هو: هل نحن أمام إصلاح انتخابي يهدف فقط إلى تحسين شروط التنافس، أم أمام رهان على تجديد السياسة نفسها، وإعادة الاعتبار للديمقراطية كقيمة لا كإجراء؟
هنا تكمن قوة هذه المذكرة، وهنا أيضا يكمن الرهان على المستقبل…
(*)باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
الكاتب : بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع(*) - بتاريخ : 23/09/2025

