الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال: جدلية الاستمرارية والتحول في منظور التاريخ الراهن

n د.مصطفى الرايس

عزف المؤرخون المغاربة، خلال العقود الأولى التي أعقبت الاستقلال، عن الانخراط في كتابة تاريخ الزمن بدعوى قصر المسافة الزمنية، وعدم اكتمال مجريات الأحداث، واستمرار حضور الفاعلين المؤثرين فيها، فضلا عن صعوبات الأرشفة ومحدودية إتاحة الوثائق، إلى جانب ما يطرحه الانخراط الإيديولوجي من حساسيات وضغوط ، غير أن هذه الوضعية شهدت تحولا نوعيا مع رحيل الملك الحسن الثاني، وما أعقبه من إطلاق مسارات المصالحة والعدالة الانتقالية، وهو ما أفسح المجال أمام بروز نقاش عمومي واسع، وسمح بحدوث تراكم من الوثائق والشهادات والمذكرات ساهم بدوره في تجاوز العديد من العوائق النفسية والمؤسساتية التي كانت تحول دون الانخراط في كتابة تاريخ اللحظة الراهنة.
ضمن هذا السياق، يندرج كتاب الدكتور إبراهيم آيت إزي الموسوم ب « الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال (1956-1975) « عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وهو في أصله أطروحة جامعية نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ، باعتباره إسهاما مركبا يربط بين لحظات التوتر الكبرى وآليات الضبط السياسي، ويوظف أدوات التاريخ الراهن لتفكيك جدلية الاستمرارية والتحول.
يتناول الكتاب الحراك الاجتماعي في المغرب بوصفه ظاهرة تاريخية ممتدة بين جدلية الاستمرارية والتغيير، حيث اعتمد الباحث إبراهيم آيت إزي منظور تاريخ الزمن الراهن لتأطير المادة المصدرية ومناقشة شرعية الاشتغال على الراهن بما يتجاوز شرط المسافة الزمنية إلى شرط المسافة المنهجية. وقد تطرق الباحث في تمهيد عام إلى انعكاس الموجة الثورية العربية منذ أواخر 2010 على إعادة طرح مطالب الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، مع إبراز خصوصية الحالة المغربية التي وصفت بكونها «استثناء» في إدارة مسارات المطالب الاجتماعية والسياسية ضمن نسق إصلاحي مضبوط، بما فتح النقاش النظري حول الديمقراطية والعدالة الانتقالية ودور الإعلام والفاعلين الاجتماعيين، وأعاد سؤال كتابة التاريخ الراهن ومرجعياته وشرعيته.
أشار الباحث أيت إيزي إلى أن موضوع الدراسة يتحدد في تتبع أشكال الحراك الاجتماعي والسياسي في المغرب زمن الاستقلال وتأثيرها في علاقة الدولة بالمجتمع ضمن منظور التاريخ الراهن، مع ضبط حدود زمنية تمتد من 1956، تاريخ الاستقلال، إلى 1975، منعطف المسيرة الخضراء، مع ارتدادات مقارنة إلى القرن التاسع عشر ومرحلة الحماية لالتقاط الثابت والمتغير في بنية الاحتجاج. كما اعتمد الباحث حدودا مكانية تتركز على المغرب مع انفتاح انتقائي على أرشيفات أجنبية (فرنسا، إسبانيا، الولايات المتحدة)، وحدودا موضوعية تقوم على تحليل ثلاث حالات شاهدة: الريف 1958-1959، وأحداث 23 مارس 1965 بالدار البيضاء ، و العمليات المسلحة التي وقعت في السبعينيات ، وربطها بالبنية المخزنية ومنطق الشرعيات المتنازعة.
اعتمد الباحث إشكالية مركزية مفادها: كيف تتبدى جدلية الاستمرارية والتغيير في الحراك الاجتماعي بالمغرب ما بعد الاستقلال داخل بنية مخزنية ممتدة؟ وما أثر ذلك في أشكال الفعل والشرعية والمآلات؟ وتفرعت عنها أسئلة حول طبيعة المتغيرات بين 1956 و1975، ودرجة التأطير الفكري والتنظيمي أو غلبة العفوية، وطرق تفاعل الدولة مع موجات الحراك بين إعادة إنتاج ترسانة الضبط أو تعديل أدواتها تحت ضغط السياقات، ثم مآلات الحالات الشاهدة وكيف أسهمت في إعادة تشكيل علاقة الدولة بالمجتمع. وخلص الباحث إلى صياغة فرضية أساسية مؤداها استمرار البنية المخزنية السابقة للاستعمار بعد 1956 بما يؤطر منطق إدارة التوتر الاجتماعي والسياسي، مع تكيفات دستورية ومؤسسية حديثة لإعادة إنتاج الهيمنة ضمن أفق شرعي وسياسي محدث.
في الخلفية النظرية، تطرق الباحث أيت إيزي إلى شرعية التاريخ الراهن باعتبارها مشروطة بالمسافة المنهجية لا الزمنية، عبر النقد الصارم وتعدد المصادر والتحقق التقاطعي وإشراك الشهادات والوسائط السمعية البصرية، مع تمييز ابستمولوجيا حاسم بين الذاكرة، بطابعها الذاتي والانفعالي وغاياتها، والكتابة التاريخية، بميلها للتحليل والنقد والموضوعية النسبية. كما أشار الباحث إلى التكامل المعرفي عبر الحوار مع العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي والأنثروبولوجيا السياسية لفهم ديناميات الحراك وبناه الرمزية والتنظيمية.
وقد تطرق الباحث أيت إيزي إلى السياق التاريخي العام في ثلاثة أطوار كبرى: طور أول (1955-1960) اتسم بانفراط توافق الحركة الوطنية وتنازع الشرعيات بين القصر والأحزاب والنقابات، وتفاقم اختلالات مالية واجتماعية تحت ضغط ديمغرافي متسارع؛ وطور ثان (1960-1965) شهد تمركز السلطة مع دستور 1962 وصعود الحكم الفردي وتعمق الاختلالات وطور ثالث (1965-1975) أعاد تركيب الأوتوقراطية مع تصاعد المعارضة الراديكالية وظهور العنف السياسي (1971-1973) ، ثم إعادة بناء الشرعية في أفق المسيرة الخضراء سنة 1975.
منهجيا، اعتمد الباحث مقاربة دراسة حالة Une étude de cas مقارنة لثلاث وقائع شاهدة تسند بناء تركيبيا يستكشف العوامل المحركة وآليات الاشتغال وردود فعل الدولة والمآلات ، مع تنويع أدوات الجمع التي شملت الأرشيفات الأجنبية ( الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي في نانت، الأرشيف الأمريكي السري)، والوثائق الرسمية المغربية (خطب محمد الخامس والحسن الثاني، الجريدة الرسمية)، وأرشيفات هيئة الإنصاف والمصالحة، بالإضافة إلى المذكرات والدراسات الأكاديمية والصحافة. وأكد على أهمية إجراءات نقد مصدرية تشمل التحقق التقاطعي بين الأرشيف الرسمي والأجنبي والشفهي والصحافة، وتقييم انحيازات الذاكرة والمذكرات وتحديد مرتبتها التوثيقية، وضبط المفاهيم لتفادي المرونة الدلالية. كما اعتمد الباحث خطوات تحليلية تبدأ بتحديد العوامل المحركة لكل حالة (اقتصادية، اجتماعية، سياسية، رمزية)، وتفكيك آليات الاشتغال (أمنية، قانونية، مؤسساتية، رمزية)، وصولا إلى استنتاج المآلات وربطها بإعادة تشكل الشرعية وعقد الدولة والمجتمع. وقد ميز الباحث إجرائياً بين مفاهيم قريبة مثل الاحتجاج والحركة والتمرد والثورة والفتنة والانتفاضة والسيبة …، مع إسنادها إلى سياقاتها التاريخية المغربية. كما أشار إلى « الاستثناء المغربي» بوصفه توصيفا لإعادة إنتاج أدوات الضبط والتكييف السياسي دون قطيعة شاملة، مع إدراج إصلاحات مؤسسية مدارة ضمن أفق مضبوط.
وعلى مستوى الحالات الشاهدة، تطرق الباحث إلى حالة الريف 1958-1959 بوصفها تمردا قبليا/جهويا محمولا على ذاكرة مقاومة (أنوال، رمزية الخطابي) وتهميش اجتماعي اقتصادي، تكشف التوتر بين الشرعية التاريخية المحلية ومركزية الدولة الحديثة. كما أشار الباحث إلى 23 مارس 1965 باعتبارها انتقالا من إضراب تلاميذ إلى انتفاضة مدينية عابرة للفئات، مؤشرة على اختناق اجتماعي وكسر أمل جيل الاستقلال وتصدع العقد الاجتماعي الحضري. وتطرق الباحث إلى العمليات المسلحة 1971-1973 باعتبارها مسارين متوازيين للعنف السياسي، عسكريا من داخل النظام ويساريا راديكاليا من خارجه، بما يكشف أزمة شرعية واستقطابا إيديولوجيا في سياق اقتصادي دولي متأزم. وقد خلص الباحث، عبر المقارنة، إلى أن تنوع أنماط الفعل الاحتجاجي وتعدد قنواته لم يفض إلى تراكم تنظيمي وفكري كاف لتحويل الطاقة الاحتجاجية إلى تغيير مؤسسي مستدام، بالنظر إلى قوة إعادة تموضع الدولة وقدرتها على تركيب الشرعية وتحييد الفاعلين .
وفي القيمة العلمية، أكد الباحث إبراهيم أيت إيزي مساهمته النظرية في تثبيت تاريخ الزمن الراهن كأفق مشروع وضروري لفهم المغرب السياسي والاجتماعي، مع تفضيل المسافة المنهجية على الزمنية، ومساهمته المنهجية في تزاوج دراسة الحالة-المقارنة مع النقد المصدري المتعدد القنوات، ومساهمته التوثيقية في تنويع المتون وفتح إمكانات كتابة التاريخ خارج احتكار الذاكرة السجالية. كما اعتمد الباحث اعتبارات أخلاقية تقضي بتحري الموضوعية النسبية والاعتدال في الأحكام والحرص على عدم الوقوع في فخ تبادل الاتهامات أو الانغلاق داخل خطابات تبريرية ، واحترام حساسية القضايا الراهنة ووضع الشهود، والالتزام بضوابط الاستعمال العادل للمذكرات والمواد السمعية البصرية، وتوثيق مضبوط يبين مراتب الوثائق ودرجات اليقين. واعتمد الباحث في الختام تركيبا يبرز أن فهم الزمن الراهن المغربي يقتضي إدماج المقاربة المقارنة الطويلة المدى مع النقد المصدري المتعدد، وأن أي قراءة للراهن خارج هذا التوازن تغدو رهينة الذاكرة أو خطابها السجالي، بينما يظل مقصد المؤرخ هو الفهم لا الاتهام ولا التبرئة.
يخلص الباحث أيت إيزي في كتابه إلى القول بأن دينامية الحراك في المغرب خلال الفترة المدروسة امتداد بنيوي لمحركات تاريخية سابقة أكثر منها قطيعة؛ إذ ظل عامل القهر والحرمان محركا ثابتا عبر الأزمنة، من الجباية والتسخير في القرن التاسع عشر إلى التهميش البنيوي والبطالة وغلاء المعيشة في المدن خلال الاستقلال، وهو ما جعل الريف يتحرك طلبا لرفع الإهمال الاقتصادي، وجعل بروليتاريا الحواضر وشبابها يحتجون أمام انسداد الأفق، بينما اتخذت أقلية مسلك العمل المسلح ردا على أوتوقراطية الحكم واحتكار الامتيازات. انتهى الباحث إلى أن « العطب » الرئيس لم يكن في دوافع الاحتجاج بل في طرائق تدبيره؛ إذ غلب على الحالات الثلاث غياب الوضوح والنضج الفكري والبرنامج الواضح والقيادات الوسيطة القادرة على تحويل الفعل الغاضب إلى حركة اجتماعية منظمة، ما أبقى الفعل في حدود الانفعال اللحظي وأعاق انتقاله إلى تغيير مؤسسي.

الكاتب : n د.مصطفى الرايس - بتاريخ : 26/09/2025