مئوية بي بي كينغ… صوت الجموع الخاص

يتجاوز اسم عازف الغيتار والمغني الأميركي بي بي كينغ (1925 – 2015)، كل حدود التعريف والتأطير إلى دلالات ثقافية واجتماعية بل سياسية أرحب. فحين كان يطل من فوق خشبة المسرح ممسكاً بغيتاره الشهير، لوسيل (Lucille)، كان يتخطى معاني الموسيقى والفن ليفتح نافذة على الذاكرة الجمعية للسود في الجنوب الأميركي، ويستدعي عبر الأوتار ما ورثته الأجيال من معاناة وتوق عميق إلى الحرية، فتتحول كل نغمة منه إلى صرخة أو شكوى أو دمعة متألم، ليجد المستمع نفسه أمام تجربة شعورية أكبر كثيراً من أن تنتمي إلى عالم الترفيه.
منذ بداياته الأولى، اتسم أسلوب بي بي كينغ بالتركيز على الشحنة العاطفية بدلاً من الاستعراض التقني، فلم يكن معنيّاً بالسرعة ولا بحشد النغم والإيقاع، وإنما شغل تفكيره دوماً ببناء جملة قصيرة تنقل إحساسه إلى المتلقي، مستعيناً في كثير من الأحيان بلحظة صمت تتيح لتلك الجملة أن تتردد في أعماق السامعين، وقد أدرك مبكراً أن الصمت قد يحمل أحياناً طاقة تعبيرية تفوق ما تملكه الأصوات نفسها. هذا الوعي بالتوقيت، والقدرة على تنظيم العلاقة بين النغمة والفراغ، هو الذي جعل عزفه غنياً بالمعاني وإن بدا مقتصداً في الزخرفة، زاهداً في أشكال الإبهار التقني.
كان الغيتار في يده يتحول إلى صوت ثانٍ، يرد على غنائه في حوار حيّ يضفي على الأداء مسرحية داخلية، فكان الجمهور يسمع شخصيتين تتبادلان البوح وتكمل إحداهما الأخرى.
تعامل بي بي كينغ دوماً مع غيتاره باعتباره كائناً حياً وصديقاً حقيقياً وشريكاً في الغناء، وقد اكتسب لوسيل مكانته الأسطورية من القصة الحقيقية التي ارتبطت به، فقد أنقذ كينغ الغيتار من حريق شبّ في ملهى، وعرف أن السبب كان مشاجرة بين رجلين حول امرأة تدعى لوسيل، فقرر أن يطلق اسمها على آلته ليذكّر نفسه دوماً بخطورة الاندفاع وبقيمة ما يملكه بين يديه.
مع مرور السنوات تحول لوسيل إلى رمز يتجاوز الحكاية الشخصية. كان صوته الثاني، ورفيقه الذي حمل همومه وأفراحه، ووسيلته لكتابة سيرته أمام الحضور نغمة بعد أخرى. من يتأمل علاقته بغيتاره يلمس نوعاً من الوفاء، كأنه يضع في كل عزف اعترافاً بفضله، أو يشكره على ما منحه من قدرة على تحويل مشاعره إلى موسيقى.
نشأ كينغ في الجنوب الأميركي الفقير، وسط واقع عنصري قاسٍ، وهناك تشكّل وعيه بالبلوز في صورته الأولى: موسيقى البسطاء الذين حوّلوا شقاءهم إلى غناء يحمل معنى البقاء. بالنسبة إليه، كان البلوز صيغة وجودية تتيح للإنسان أن يواجه قسوة الحياة، أكثر منه قالباً فنياً فحسب. لذلك، وصل صوته إلى الناس بصفته صوتاً صادقاً، حتى وإن لم يعرفوا تفاصيل خلفيته، لأن التجربة الإنسانية التي نقلها كانت مشتركة وعابرة للحدود.
في ستينيات القرن العشرين، حين كانت الولايات المتحدة تغلي بنقاشات الحقوق المدنية، كان صوت كينغ حاضراً بطريقة تختلف عن خطب السياسيين أو مظاهرات الشوارع.
حرص على ألا تكون موسيقاه ترجمة لشعارات مباشرة، فقد أراد أن يحمل فنه جوهر كرامة الإنسان وحقه في أن يُسمع صوته، ووجد الجمهور الجنوبي الذي حضر حفلاته في البلوز مساحة تعبير آمنة، إذ يتلاقى الألم الفردي مع الجرح الجماعي، وتتحول المعاناة إلى لغة مشتركة.
هكذا، صار كينغ شاهداً فنياً على تلك الحقبة. صوته يوازي أصوات المطالبين بالحرية والمساواة، من دون أن يرفع لافتة أو يهتف في مسيرة. فالفن عنده كان شكلاً من أشكال المقاومة الهادئة، يفتح الباب لوعي جديد، عبر الغيتار والغناء.
ولا ريب في أن شخصية كينغ كانت عاملاً حاسماً في حضوره الفني. لم يقتصر تأثيره على عزفه أو صوته، فقد كان يمتلك كاريزما طبيعية تجعل السامعين يشعرون أنهم قريبون منه. ابتسامته، ودعاباته الخفيفة، ودفء حضوره، كلّها حولت الحفل إلى لقاء حيّ بين أصدقاء أكثر منه عرضاً فنياً بين نجم وجمهور. هذه القدرة على خلق علاقة إنسانية مباشرة ساهمت في اتساع قاعدة معجبيه، فتجاوزه محبو البلوز إلى عشاق الروك والجاز والبوب، وكل من يبحث عن موسيقى صادقة تحرّك العاطفة بلا تكلّف.
ترك بي بي كينغ تأثيره في العازفين بدرجة لا تقل عمقاً عن تأثيره في جمهوره. فقد تحولت طريقته في العزف إلى مدرسة قائمة بذاتها، تعتمد على مبدأ بسيط: كل نغمة يجب أن تحمل معنى. وقد استلهم منه كثير من عمالقة الروك والجاز، من إريك كلابتون إلى جيمي هندريكس إلى كيث ريتشاردز، وكلهم أشاروا إلى أن بي بي كينغ لم يكن مجرد قدوة تقنية، وإنما كان نموذجاً في كيفية تحويل الآلة إلى صوت شخصي. التلاميذ الكبار الذين جاؤوا بعده أخذوا منه الفكرة الجوهرية: الغيتار ليس أداة محايدة.. إنه بصمة تعكس شخصية العازف ومزاجه وحكايته الخاصة.
كانت البساطة أبرز خصائص أسلوب كينغ، فالجمل التي يعزفها تبدو سهلة للنقل على مستوى النوتة، لكنها في الحقيقة عصية على التقليد، لأن الصعوبة تكمن في اللمسة الإنسانية التي يُحمّلها كل صوت.
ومن يحاول إعادة عزف جمله الشهيرة يكتشف أن النغمات ذاتها لا تكفي، وأن السر كامن في طريقة الضغط على الوتر، في الانحناءة الدقيقة، في الاهتزاز الذي يمنح النغمة حياة كاملة. هذه التفاصيل الصغيرة جعلت من عزفه مرجعاً يختبر من خلاله الآخرون قدرتهم على التعبير.

وعلى امتداد مسيرته الطويلة، ظل كينغ شاهداً على تحولات المجتمع الأميركي، وكانت موسيقاه وثيقة موازية للتاريخ الاجتماعي، من زمن التمييز العنصري إلى لحظة صعود حركة الحقوق المدنية، ومن الفقر الريفي إلى أضواء العالمية، كل مرحلة انعكست في نغماته بطريقته الخاصة، وكأن صوته الشخصي كان يواكب صوت جيل بأكمله. ومن خلاله يمكن قراءة مسار السود في القرن العشرين، من هامشية القهر إلى حضور الاعتراف والاحتفاء.
إن هذا الامتداد الثقافي لكينغ جعل البلوز يتحول على يديه من موسيقى محلية إلى لغة كونية. فالسامع الأوروبي أو الآسيوي أو العربي كان يجد في عزفه شيئاً مألوفاً رغم اختلاف السياق، لأن المشاعر التي يعبّر عنها لا تنتمي إلى جغرافيا بعينها. الألم والشوق والأمل والخيبة، كلها عواطف إنسانية عامة، وقد استطاع أن يحوّلها إلى خطاب موسيقي عالمي. لذلك، انتشر تأثيره في القارات، ووجد عشاقاً في أماكن بعيدة لم تعرف تاريخ الجنوب الأميركي، لكنهم عرفوا عبر نغماته جوهر التجربة الإنسانية نفسها.
ما يميز تجربة كينغ أيضاً هو الطريقة التي جعل بها الحفل الحي حدثاً ثقافياً يتجاوز إطار الموسيقى. حين كان يصعد إلى المسرح، كان يدرك أنه لا يقدّم مجموعة أغانٍ، وإنما يخلق عالماً صغيراً له قوانينه الخاصة. يوزع الطاقات بين الحضور، ويبادلهم النظرات والابتسامات، ويصوغ معهم حالة وجدانية مشتركة.
وقد أشار كثير من النقاد إلى أن حفلاته بدت أقرب إلى طقوس روحانية، فيجد المستمعون أنفسهم وقد دخلوا في حالة من الانسجام العاطفي، يخرجون بعدها أخفّ وأقدر على مواجهة الحياة.
هذه الفلسفة في التعامل مع الأداء المباشر تركت أثراً واسعاً على أجيال من الفنانين الذين تعلموا أن الحفل ليس فرصة استعراضية فحسب، بل مساحة تواصل إنساني، وأن الفنان الحقيقي هو الذي يجعل جمهوره يشعر بأن صوته يعكس أصواتهم جميعاً.
لم يسعَ كينغ إلى «الأسطرة»، فقد ظل في نظر نفسه فناناً يمسك غيتاراً ليقول ما يشعر به، ومن خلال هذا التواضع صنع أسطورته. لم يدخل في صراعات لإثبات مكانته، ولم يبحث عن مقارنات مع الآخرين، وإنما اكتفى بأن يكون صوتاً أصيلاً يحمل صدقه الخاص. وهذا الثبات على الذات هو الذي منحه خلوداً يتجاوز لحظته الزمنية. فعندما يسمعه المتلقي اليوم، بعد عقود من تسجيلاته الأولى، لا يشعر أنه أمام موسيقى قديمة، وإنما أمام تجربة لا تزال حية تتدفق بالحرارة نفسها.
إن خلاصة تجربة بي بي كينغ تكمن في الدرس الذي يقدمه للأجيال: الموسيقى العظيمة لا تحتاج إلى تعقيد كي تخلّد، وإنما تحتاج إلى صدق. الغيتار قد يتحول إلى شاعر إذا حمل بين أوتاره روح صاحبه، والنغمة الواحدة قد تعادل مقطوعة كاملة إذا خرجت محمّلة بالمعنى.
ترك كينغ وراءه إرثاً لا يمكن قياسه بعدد الألبومات أو الحفلات أو الجوائز، أو بترتيب مجلة رولينغ ستون له في المركز السادس بقائمة أهم مئة عازف غيتار على مر العصور، وإنما بقدرته على أن يجعل الملايين يشعرون أن صوتهم الخاص وجد طريقه إلى العالم عبر أوتاره. وهكذا يظل اسمه مرادفاً للبلوز في أنقى صوره، وصدىً باقياً لفكرة أن الفن في جوهره أداة لفهم الإنسان لنفسه.


بتاريخ : 26/09/2025