رأينا تلك الإغماضة على التلفزيون، أنا وزوجتي. كنا نتابع نشرة الأخبار، لكن بدون اكتراث. انتبهنا أولاً إلى عناوين الأخبار الرئيسية، وإلى تفاصيل خبر أو اثنين، ثم عادت زوجتي إلى مجلتها، وعدت إلى شرودي. وفجأة ظهر وجه الشاعر. نبهتني زوجتي (طالبته السابقة)، وعرفنا أنهم يهيئون له حفلة تكريم. لم يدم وجه الشاعر على الشاشة إلا لحظة عابرة، فقد اهتمت الكاميرا أساساً بالذين كرموه، بعلاقاتهم به، وبانطباعاتهم عن شعره، ودواعي تكريمهم له.
في تلك اللحظة العابرة رأينا إغماضة الشاعر. كانت الأضواء قد تركزت على وجهه، ولأنه ضاق بذلك، أو لأن عينيه المتعبتين لا تطيقان الأضواء، أو… فقد أطبق جفنيه، أطبقهما على مهل، إطباق بطيئة أبية، متوحدة عزوفًا كخطوة أسد، كدمعة أسد. إطباق كأنها، في كثافة دلالاتها، في رمزيتها، في إيجازها. كلمة شعرية من إحدى قصائده.
الصورة الثانية:
يرى الشاعر ابتسامة سعاد، ابتسامة غريبة ومعقدة كأنها قصيدة مترجمة، فيها قليل من الحنو القديم أيام كانت تخاف عليه من نفسه الشاعرة مثلما تخاف الأم على طفلها حين تراه يلعب بمدية المطبخ. وفيها قليل من السخرية، سخرية رحيمة لا شامتة، سخرية كأنها تقول له:
« وأخيرا… ماذا لقيت من الشعر … ولقينا؟».
وفيها قليل من الندم أيضا. الندم؟ كأنما تندم لأنها أحبته، أو كأنما تندم بالنيابة عنه لأنه لم يستجب لرغبتها في الزواج.
وفيها قليل من الحيرة كأنها لا تفهمه، لا تفهم كيف يحبها ولا يتزوجها، ولا تفهم كيف يشتاق إليها في الشعر ويهرب منها في الحياة، ولا تفهم كيف تزوج في ما بعد امرأة لا يحبها، وكيف عاش معها… وحيدا.
استوعب الشاعر هذه الابتسامة المعقدة، تركها تتسرب إلى دمه العجوز في رفق وتؤدة، وربت عليها قائلا:
– أحبيني، فإن جميع من أحببت قبلك، (كل من أحببت بعدك )ما أحبوني .
– لقد أحببتك، ولكنك كنت مشغولا عني.
– شغلني عنك الليل.
الليل؟ ما هو الليل؟
– الليل – رغم أن من الصعب الحديث عن الليل ببساطة أو بجزم أو بقول واحد أو بقائل واحد أو بكاتب واحد أو بنص واحد، ورغم أن من السهل الحديث عن الليل باستخدام الركام الهائل من الكلمات التي تتحدث عن الليل، وإن كانت تقف على حافته، وتقدم وصفها له من منظور أعشى – إبريق خمر.
الإبريق عتيق، والخمر عتيقة وعاتق وعتيق، عتيقة لقدمها، وعاتق لأنها بكر لم يمسسها شارب، وعتيق لأنها حرة رغم الإبريق الحافظ، لأنه إبريق من ريق، ريق النهار، نعم الليل ريق النهار، رضابه الحلو الذي لا يذوقه إلا العشاق والشعراء و… أنا.
قلت لزوجتي بعد أن قرأت ما كتَبَتْ:
– سعاد، هي أنت؟
ابتسمت في غموض وقالت:
– لا تتذاكَ، أيها الطفل الرائي.
بعد بضعة أيام، تلقينا نعي الشاعر بالتلفزيون، سافرت فوراً لأشارك في تشييع جنازته.
في القطار، أغمضت عيني عما حولي، فرأيت الطفل يحدق في كفه حتى يظهر له الشاعر على شاشة التلفزيون مغمضاً عينيه، ويحدق حتى يرى ما يراه الشاعر في إغماضته العابرة تلك، يرى نعشا محمولا، وفوقه الشاعر نفسه مغمضاً عينيه إغماضته الأبدية. إغماضة لا يستطيع الطفل مهما حدق أن يسبر غورها.