يشهد الأدب العربي في العقود الأخيرة طفرة نوعية على مستوى الأجناس الأدبية، وبخاصة الرواية التي صارت فضاء رحبا للتجريب وإعادة صياغة اللغة والتاريخ والذاكرة. لم يعد النص الروائي محصورا في الحكاية التقليدية التي تسرد الأحداث بشكل خطي، بل تحول إلى مختبر فني، يزاوج بين السرد والفكر، وبين المتعة الجمالية والتأمل الفلسفي. ومن بين النماذج التي تجسد هذا التوجه رواية الفسيفسائي للكاتب المغربي عيسى ناصري، التي استطاعت أن تحجز مكانها في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، لتؤكد مكانة الأدب المغربي والعربي في مشهد السرد المعاصر.
فسيفساء السرد:
رواية داخل رواية
تقدم الفسيفسائي بناء روائيا غير مألوف، فهي رواية تحتضن داخلها روايات أخرى، وتتوزع أحداثها عبر طبقات من الحكايات التي تنطلق من فضاء وليلي، المدينة التاريخية المغربية التي تختزن في حجارتها بقايا حضارات غابرة. يوصف قالبها السردي أحيانا بكونه «مجنونا»، إذ لا يسير في خط مستقيم، بل يتشعب في مسارات متداخلة تجعل القارئ يتيه بين سطورها. غير أن هذا «التيه» ليس ضعفا في البناء، بل هو مقصود، إذ يضع القارئ في مواجهة مباشرة مع لعبة السرد، ويجبره على أن يكون شريكا فاعلا يحاول تفكيك الرموز والألغاز، وفهم الروابط بين الحكايات المتناثرة.
الرواية والتاريخ:
قراءة جديدة للماضي
من أبرز سمات الفسيفسائي أنها رواية تاريخية بامتياز، لكنها لا تقدم التاريخ بوصفه سجلا جامدا للأحداث، بل تعيد مساءلته وتفكيكه عبر الفن. يستحضر الكاتب الأزمنة الماضية، لكنه في الآن ذاته يربطها بالحاضر، ليكشف أن التاريخ ليس مجرد وقائع، بل هو بناء قابل لإعادة التشكيل وفق زوايا نظر جديدة. هذا التداخل بين الأزمنة يمنح الرواية عمقا خاصا، حيث نجد خيطا ناظما يربط الماضي بالحاضر، ويفتح أفقا للتفكير في المستقبل.
إن الرواية هنا ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل هي محاولة لفهمه بعمق جديد، عبر لغة سلسة، قريبة من القارئ، وفي الوقت نفسه غنية بالرموز والإيحاءات. هكذا يتحول التاريخ من موضوع جاف إلى مادة أدبية نابضة بالحياة، تجعل القارئ يعيش التجربة ويتأملها، بدل أن يكتفي بقراءتها كمعرفة مدرسية.
الأدب في مواجهة
قسوة الواقع
رغم أن العالم العربي يعيش فروقات مختلفة، فإن الأدب يظل هو الحقل الأكثر قدرة على الصمود والإبداع. فبينما تفشل السياسة أحيانا في بناء الجسور، يستطيع الأدب أن يفتح نوافذ على عوالم جديدة، وأن يقدم أدوات ناعمة لمواجهة الحياة والتاريخ. الفسيفسائي تجسيد لهذا الانتصار الرمزي للأدب، إذ تجعلنا الرواية ندرك أن السرد، بما يحمله من فن وعمق إنساني، يظل وسيلة لفهم الذات والآخر، والوجود بأسره.
الفن يبقى ما دام الإنسان يحمل في داخله ضميرا، والأدب بالذات هو المرآة التي تعكس هذا الضمير، حتى في أكثر اللحظات قسوة وظلاما. ومن هنا تأتي أهمية أعمال مثل الفسيفسائي، التي تذكرنا بأن الأدب ليس ترفا، بل ضرورة وجودية.
عودة الأدب إلى التاريخ:
بين الزعزعة والاكتشاف
حينما يعود الأديب إلى التاريخ، فإنه لا يسعى إلى تقويض المعتقدات أو هدم المسلمات، بل يحاول أن يفتح بابا جديدا للفهم. التاريخ، في منظور الرواية، ليس كتلة صلبة، بل فسيفساء من الوقائع والرموز والتجارب التي يمكن أن تقرأ من زوايا مختلفة. ومن هنا فإن الفسيفسائي تكشف أن العودة إلى الماضي ليست عودة للنوستالجيا، بل هي محاولة لاستخراج المعنى، واستحضار ما يمكن أن يكون مفيدا للحاضر والمستقبل.
خاتمة: عمل روائي خطير بمعناه الإبداعي
إن رواية الفسيفسائي ليست مجرد عمل سردي آخر يضاف إلى مكتبة الأدب العربي، بل هي تجربة فنية وفكرية متكاملة، تضع القارئ أمام تحديات السرد الحديث، وتمنحه في الوقت ذاته متعة جمالية وفكرية. إنها رواية خطيرة بمعنى أنها تجرؤ على إعادة صياغة التاريخ في قالب أدبي، وتفتح الباب أمام تأملات أوسع حول الزمن والهوية والذاكرة.
وبهذا، يمكن القول إن الفسيفسائي تمثل واحدة من أروع التجارب السردية في الأدب العربي الحديث، وتثبت أن الرواية قادرة على أن تكون فضاء معرفيا وجماليا، يعيد صياغة علاقتنا بالتاريخ والإنسان والوجود.