التقنية سلبت الفوتوغرافيا جوهرها ورمزيتها
إن التفكير في مقاربة موضوع علاقة الفن بالتقنية يحتاج الى «التأمل في كل الإبدالات التي تمت على مستوى المقاربات والعُدد والتفكير في مختلف التحولات التي طرأت على مجال الصورة الفوتوغرافية وصولا إلى فوتوغرافيا الذكاء الاصطناعي»، بالنظر إلى تأثيرها في التمثلات وفي الآفاق الإبداعية التي تفتحها الصورة أمام الرائي، كما يتطلب إثارة عدد من الأسئلة الراهنة والمتعلقة بمعنى الجمال في ضوء هذه التحولات، والفهم الجديد للعمل الفني وتأثيراته في سوق الفن والثقافة التي تحملها هذه التقنية، خاصة في مجال الفوتوغرافيا .
هذه الأسئلة، يقول الأكاديمي والباحث في الفوتوغرافيا جعفر عقيل، تلامس انتقال الفوتوغرافيا من طابع «العفوية» و»اللحظة الهاربة» إلى عالم التقنية، ما يضع الفنان وماهية العمل الفوتوغرافي محط أسئلة ونقاش.
لايخفي عقيل أن حضور التقنية أسهم في توسيع رقعة التجارب الفوتوغرافية، وفتح آفاقا أمام منتج الصورة بأساليب مبتكرة منحتها جاذبية رغم ما تقابل به من توجس، وهو توجس نابع من خطر الانزلاق القائم على الإفراط في استعمال التقنية، خاصة عبر تقنية الذكاء الاصطناعي مع ما سيتتبع هذه التقنية من إنتاج تصورات جديدة حول الفن والثقافة، وارتباط ذات الفنان مع محيطها، وتسليع الصورة الفوتوغرافية تحت ضغط حاجة المشاهد بسبب هوس تداول الصورة.
وخلص عقيل إلى أن التقنية «بقدر ما ساهمت في ترسيخ مجتمع الفرجة، بقدر ما شاركت في التضليل والشك في حقيقة الأشياء وقطعت مع مفهوم الصورة – الوثيقة» بعد أن كان ينظر للصورة الفوتوغرافية كتجسيد وتوثيق لأحداث واقعية حدثت، وهي النظرة التي تلاشت مع استخدام التقنية حين أصبحت الصورة تترك الانطباع بأنها تجسيد لما لم يحدث.
إن التقنية رغم ضرورتها، سلبت – حسب عقيل – من الفوتوغرافيا جوهرها ورمزيتها، لأن ما تنقله ليس إلا لحظة عابرة، وليس صورة الذات كما هي متمثلة في ذاكرة الرائي والمشاهد.
وضمن هذا الواقع الجديد في مجال الفوتوغرافيا، يجد المشاهد نفسه أمام تأسيس لعلاقات ولزمنية جديدة بين الذات وأسرار العوالم الخارجية المحيطة بها، ومعه صار على العين أن تغير نظرتها الى الوقائع وما يحيط بها.
ما بعد الإنسان أو ما دونه
مقاربة أخرى تتم من داخل الماوراء والسحري والمغيب، تلك التي طرحها الأكاديمي والباحث في الفلسفة المعاصرة عبد الواحد أيت الزين، وهو يبحث عن «سحر التقنية وهالة الفن»، متسائلا: «ألم تكن التقنية وراء نزع الطابع السحري للعالم خلافا للفن الذي عمل طوال تاريخه على إظهار هذا الجانب؟ وهل أنهت التقنية هذا الحضور بعد هيمنة التوجه العقلاني الذي يعتبر الفن خبرة وهندسة تقنية دقيقة وعلما قائما.
وأضاف ايت الزين أن التقنية عرفتنا على سحر لاتناهي العالم، وقوت من شكل حضور الإنسان في العالم، وعرفته على مظاهر العبقرية الى أن «وصلت به الى هذا الكائن الجديد والمغاير الموصول بعالم التقنية كليا»، أو ما يطلق عليه « الإنسان المستزاد» أو « ما بعد الإنسان» أو «ما دون الانسان».
ولفت أيت الزين الى أن قوة الخيال هي كلمة السحر في أي إبداع بشري، وأيضا هي نقطة التماس الخطيرة بين العلم والتقنية والفن. ففي قوة الخيال «تتشكل نقط تلاشٍ ينصهر فيها التقابل التقليدي بين العقل واللاعقل، بين التقني والفني، بين الإنساني والإلهي، وبينهما والمخلوق الآلي فتتغير لحظتها دلالات الطبيعي والثقافي والاصطناعي، مما يخلخل كافة المنظومات المعرفية التقليدية ومعاييرها في الفن».
وخلص المتدخل الى ان» التقنية لم تقض على السحر وخيالاته، بل أصبحت تجسيدا أعلى له»، ومن ثم أضحت مصيرا وقدرا لكن مع ذلك يظل الفن الحقيقي بوابة صعبة الاقتحام تقنيا، وتظل هالة الفن موحية «بتجربة طقسية مقدسة تنتهي بصاحبها الى إبداع ما لا يمكن نسخه او استنساخه».
الأكاديمية الفرنسية باربارا سارتر، وقفت قبالة مرايا الفن لترى الانعكاسات التي يبدعها الفن من أصداء وأبعاد معاكسة، مقدمة لذلك بنماذج من أعمال فنية عالمية.
ودعت باربارا، في حديثها عن توليد الصور وهيمنة الذكاء الاصطناعي، الى إعادة تملك التكنولوجيا أمام جبروت الصورة، خاصة في مجالات فنية مخصوصة كالبورتريه وخطورة إضفاء الطابع الافتراضي عليه بشكل مفرط، ومن هنا ضرورة التفكير في علاقتنا بالنظرة وما وراء الصورة، مؤكدة على ان التقنية كأداة ينبغي» أن تخدم إعادة التملك الفني للمعرفة وتحريك الخيال»، فهي بقدر ماهي معجزة قد تمثل سرابا، وبقدر ما تتيحه من قوة للإبداع، فإنها تمتلك حدودا على الفنان إدراك تجلياتها حتى لا تبتلعه ثقافة السوق وتغتال روح المبدع فيه.
نور الدين أفاية: كل تطور تقني يغير حتما من الممارسات الثقافية
في تناوله لموضوع سلطة التقنية في عالم الفن، توقف الأكاديمي نور الدين أفاية عند مسلمتين اثنتين لا يمكن القفز عليهما عند مقاربة هذا الموضوع، أولاهما أن اكتشاف الآلة لم يتم إلا لقصور وعجز بشري ولتعويض ما لا يستطيع الإنسان القيام به، وفي نفس الوقت لتفجير الأحلام سواء عبر الكتابة أو السينما أو التصوير الفوتوغرافي والتلفزيون…
ثانيهما يتعلق بأن أي اكتشاف تقني عبر تاريخ الممارسة الفنية يغير حتما من الممارسات الثقافية، أي أن تطور التقنية كانت له دوما تأثيرات وأبعاد ثقافية، مؤكدا في هذا الصدد على أن كل تحول في التقنية تتمخض عنه تغييرات كبرى على مستوى الإحساس والنظر والإدراك، والعلاقات التبادلية والممارسات الثقافية داخل المجتمع الواحد أو عدة مجتمعات، بالنظر الى معطى العولمة التي أنتجت مفهوم النموذج الواحد المعمم.
ولفت أفاية الى أن مقاربة الموضوع تتم من زاوية ما تستطيعه هذه التقنية ضمن مسار الإبداع الفني، وفي نفس الوقت ما تفترضه هذه السلطة على الفن من مقاومات وأشكال البحث عن منافذ ومسارب للحرية.
من جهة أخرى نبه مدير المعهد الأكاديمي للفنون إلى أنه لا ينبغي اختزال التقنية في مسألة الآلة المفترضة التي يمكن إدماجها في عملية تحويل المواد الفنية الى منجز، دون الوقوف على كونها مكونا للفعل الإبداعي نفسه، فضلا عن الآليات التكنولوجية، في كل مراحلها، بدءا من الكتابة الى ظهور المطبعة… الى الفوتوغرافيا ثم السينما، ووصولا اليوم إلى العوالم الحقيقية والخيالية للذكاء الاصطناعي، وما يحدثه من تغييرات في المسارات الفنية.