مرايا السرد في رواية «أثر الطير» لثريا ماجدولين

« أثر الطير « هي أول رواية للأديبة الشاعرة ةثريا ماجدولين ( 1) تتشكل من خمسة فصول تمتد على مساحة 351 صفحة من القطع المتوسط ، رواية محبوكة بعناية تامة لا تعرف أي وهن في البناء السردي، و لا يتخللها أي ضمور على مستوى لغة الحكي، أو بناء الشخصية، أو تخييل المكان و الزمن .
أفق القراءة لا يستصعب على القارئ حتى و لو أن الرواية تنهض على تشغيل مكثف ل [ تقنيات الميتاسرد ] و [ آليات التضمين الحكائي ] من خلال نسق التوازي بين رواية – إطار و رواية – متضمنة ، تنسج الكاتبة بينهما علاقة مرآوية لانعكاس الذوات و الهويات السردية : «شخصية فريدة بطلة الرواية الإطار وشخصية نادية بطلة الرواية المتضمنة « وهذه الشخصية الثانية هي [ السيمولاكر الإستيهامي ] لتجاذب نوازع سلطة الواقع و منطق الرغبة لدى الشخصية الأولى . ( 2 )
لم يعد القراء في حاجة إلى من يلخص لهم الروايات : تلخيص الروايات مدخل سيىء في النقد ووظيفة الناقد بالدرجة الأولى هي [ الاشتغال على بناء المعنى ] أي الانطلاق من أس قراءة دلائلية تأويلية لإبراز ما يعتبره السيميائيون : وظائفية إنتاج المعنى في العمل الروائي، وإظهار مستويات الاشتغال السردي المعتمدة في صوغ محفل المعنى .
يندرج العنوان «أُثر الطير» ضمن سجلات العنوان الرمزي، لا يمكن للقارئ الوقوف على أثره التأويلي إلا بعد الإنتهاء من قراءة الرواية، ولجوئه إلى مشغل رمزيات التناص ليعقد جسرا تأويليا بين شخصية فريدة التي تتمثل ذاتها ك ( ذاكرة من رماد ) ورمزية طائر الفينيق الذي ينبعث من رماده . هو تأويل استعاري بأبعاد شعرية وأسطورية يدرك منه المعنى الجوهري لهذا العمل الروائي الذي يقوم فيه السرد بترميم أعطاب الكينونة وخرابها في رحلة للقفز على « حائط القيامة « من أجل بناء حياة جديدة .
الفصول الخمسة للرواية هي :
1 – كي أظفر بالوحدة
2 – في البحث عن المعنى
3 – على حدود الوهم
4 – في مدار التيه
5 – على حافة الممكن

لن أريد أن أتوقف عند اللغة الشعرية لهذه العناوين. هذا الاختيار الإستطيقي نجده عند الكثير من الروائيين حتى الذين ليسوا شعراء [ مثال ذلك رواية « الشجعان « لهشام ناجح التي تضم 41 عنوانا فصليا ثلاثة أرباع منها عنونات شعرية ] ( 3 ) . سأركز بدل ذلك على التشاكل الدلالي في هذه العناوين والذي يقع التبئير فيه حول (سؤال البحث عن المعنى ) داخل وجود محفوف بالوحدة و الوهم والتيه ، وهو سؤال يعتمد مرايا بلاغة (هشاشة اللايقين ) باستعمال دوال الحروف كي، في، على، في، على .. وكأن السؤال ليس هو : أي معنى لحياتنا الآن ؟ بل هو: كيف أضعنا معنى الحياة ؟
هذا السؤال هو ما سيجعل مبنى الرواية مشدودا إلى ذاكرة البطلة فريدة، ويجعل نص الذاكرة والمحكي الاسترجاعي من أبرز محافل البناء الروائي .
لو توقفنا قليلا عند الفصل المعنون ب [ المؤلف و البطل ] من كتاب «جمالية الإبداع اللفظي» لميخائيل باختين حين يتحدث عن علاقة المؤلف بالبطل باعتباره «الوجه المنعكس في المرآة « (4)، لكن تلك الصورة المرآوية في « أثر الطير «لا تعني التطابق الكلي، فداخل الرواية نجد أنفسنا بصدد نوع من الهامش الأنطولوجي الذي لا تتعين صورة الذات إلا من خلاله، والكاتبة ثريا ماجدولين توزع هذا الهامش الأنطولوجي المكمل للهوية ما بين شخصية نادية في الرواية المتضمنة، وباقي الشخصيات الأخرى التي تملأ الحيز الاجتماعي للبطلة فريدة .
تنعقد مشابك عنونات الفصول حول [ سؤال القلق الوجودي ] لذات تغترب في وحدتها نتيجة افتقادها المعنى في واقع لم يعد مرآة شفافة لتطابق الوعي الذاتي بعد تحول الأحلام الفردية والجماعية إلى أوهام في عالم من التيه تنحجب فيه الحقيقة وراء مظهر كثيف من الزيف، وابتذال القيم وارتكاس المبادىء من أجل سيادة قيم النفعية والمصالح الخاصة .
رواية تضع في موضع المراجعة : [ خطاب السلطة ] و [ الخطاب السياسي الحزبي ] و [ خطاب الإعلام ] وكل الجسور الدينامية للخطاب النضالي. تضع الكاتبة هذه المدونات الثلاث في أبعادها الواقعية والرمزية في مواجهة سافرة مع [ صوت الأدب و الإبداع ] كنوع من المساءلة والمراجعة والتصحيح لمسار تاريخي يمتد من أوائل السبعينات إلى اليوم .
جراء هذا الوضع ينهض المحكي الروائي على تنضيد بوليفوني متعدد الخطابات والأصوات والأوعاء، حيث إلى جانب السرد الحدثي المباشرلوقائع اليومي وحركة المجتمع تجتلب الحبكة الروائية الخطاب النضالي السياسي (صوت الفكر اليساري لطلبة الجامعة) والفكر الاشتراكي المعبر عن حلم تغيير الواقع لدى الأحزاب المغربية اليسارية، مثلما تجتلب الخطاب الإعلامي لدى المنابر الصحفية (نصف شخصيات الرواية هم صحفيون)، راسمة أشكال تعسف السلطة لتحويل الخطاب الإعلامي [ من أداة تنوير ونقد وتصحيح إلى أداة لتجميل الواقع ] ( 5 ) و [من أداة للبحث عن الحقيقة إلى جهاز للمراقبة و الحجب ] ( 6) في منحى لتحويل الواقع من مشهد لنصرة المبادىء إلى مشهد للولاءات والتواطؤ تسود فيه علائقيات التراضي والتنافع .
تضع الكاتبة ثريا ماجدولين شخصية (فريدة ) بطلة الرواية على حافة الصدام الدرامي والتراجيدي بين العالم العبثي الذي أشرنا إليه أعلاه وتمثلها لعالمها الفردي الذي تبحث من خلاله عن الخلاص والمصير لإعادة كينونتها المتشظية إلى أول خطو وإلى أزمنة البدايات رغم أن رحلة حياة مثقلة بتجربة حادة من الأحلام والتطلعات المجهضة في النضال وفي السياسة وفي الحب والزواج والأسرة والعلاقات العاطفية إلا ما سلم من صفاء الصداقات. إنها تحمل وجدانا موشوما بالندوب وأثر الجروح وثقل ذاكرة موسومة بتشظيات الأنا والوعي والعلاقة مع العالم من حولها.
(فريدة) هي في الآن ذاته : كاتبة وصحفية وروائية وتشكيلية، هوية إبداعية متعددة تضع شخصيتها في البرزخ بين عالم منهار وعالم هو محور رغبة وحلم لاستعادة الذات، وبناء زمن مغاير للأنا و الكينونة يتجاوز إخفاقات الذاكرة والماضي، بيد أنها في هذا السعي لا تملك من سلاح سوى لملمة شظايا مرآة الذات المكسورة ، وإبدالها ب [ مرايا رمزية ] ( 7 ) ليست من زجاج بل من كلمات [ كتابة روايتها حول نادية / الصورة التوأم أو السيمولاكر الاستيهامي أو المضاعف ] وهو ماتفعله أيضا من خلال فعل الرسم والتشكيل. ومن خلال استغراق الرواية في لعبة الاستبطان المرآوي وتمرئي الهويات تضع ذاتها في أشكال متعددة من الإنعكاس مع باقي شخوص الرواية (زواجها الأول الفاشل من أحمد وانعكاسه على علاقة الأم بالبنت، قصة الحب المحبط مع سليم ودراما صورة الوجه والقناع في أساطير الحب، العلاقات المفارقة المطبوعة بالسياقات والالتباسات الغامضة مع كل من عزيز رفيق النضال والمهنة وعبد اللطيف الذي أطر وعيها الجمالي التشكيلي). وهو نسيج من تقاطعات مرآوية تضع على المحك تجربة الحب وتجربة الصداقة في سياقات هشة، يتحول فيها الحب إما إلى خيانة وتدمير وإما إلى مشجب تعلق عليه الاستيهامات والرغبات المقنعة في غياب شفافية الحوار الداخلي، وحس العاطفة الإنسانية المشتركة.
إذا كنا قد أشرنا إلى تعددية السجلات الخطابية في لغة الحكي الروائي، فإنه لا بد من الإشارة إلى (تعدد المغايرات الأجناسية داخل الرواية )، وهكذا تستقطب في تركيبها السردي المحكي التراسلي في مبتدأ الحكي، وفي سياقات أخرى منه ، ثم المحكي الترحلي أو محكي السفر : رحلات القطار بين الرباط والدار البيضاء تملأ ثلث زمن الرواية إلى جانب الرحلة إلى باريس مرة واحدة والرحلة إلى إسبانيا مرتين .ينضاف إليهما محكي التحقيق الصحفي الذي هو الجنس الإعلامي المهيمن بالمقارنة مع المقالة الصحفية . طبعا هذا الزخم من اجتلاب المغايرات الأجناسية يتراكب في مبنى روائي يحفظ للقارئ متعة السرد وعنصر التشويق رغم المستويات اللغوية المتعددة للانتقال من السرد الحدثي إلى المونولوج والإستبطان ومن الوصف والحوار إلى خطاب التحايل و التعليق والمناظرة والحجاج و البرهان . لا تضيع الرواية في هذا الزخم الخطابي وفي هذه التعددية اللغوية والأجناسية لأن الكاتبة أتقنت لعبة المحكي المرآوي كضفيرة تلحم كل مستويات هذا التعدد .
تشترك رواية « أثر الطير « مع المنجز الروائي المغربي في ملمح استطيقي ودلالي بالغ الأهمية، وهو المتعلق ب [ سؤال الذاكرة و الهوية الجماعية ] . انطلاقا من هذا البعد بالذات، فإن القراءة النقدية لمفهوم الهوية / الهويات السردية تجعل صوت الساردة فريدة (وهي الراوي المركزي ) صوتا يتمفصل بذاكرة فردية – جماعية . قد يعثر القارى بشكل إحالي ومرجعي على جوانب من الحياة المفترض أن تكون خلفية ذاكراتية للكاتبة ، لككنا لا نذهب إلى إسقاط ظل التاريخ على التخييل الروائي، فالروائية ثريا ماجدولين بارعة في محو الحدود بين المرجعي الواقعي والتخييلي المحتمل . وهي بهذا السحر التخييلي تقدم لنا رواية تنتسب في الصميم إلى أدب الشهادة وأدب السيرة الذهنية كما يقوم بتوصيفها محمد الداهي في كتابه « متعة الإخفاق « (8 )، وهو يستقرىء مسار السيرة الذهنية في المشروع التخييلي لعبد الله العروي . بل أبعد من ذلك حسب مرجعياتي في القراءة والتتبع، نلمس أن هذه الرواية يمكن أن تكون جزءا من متن روائي ثلاثي المرجعيات إلى جانب رواية «محنة ابن اللسان « لجمال بندحمان ورواية « هوت ماروك « لياسين عدنان . (9 )
كل الأعمال الثلاثة تميزت بكونها اعتمدت بناء حبكة تتحرك في الشخوص والزمن والمكان من فضاء الجامعة في اتجاه فضاءات
الصحافة والتعليم والنضال الحزبي . كلها أيضا انتقدت بلهجة قاسية وهجائية الأزمنة الرمادية لخبو مشاريع الحلم والنضال في مواجهتها لواقع مفارق تتعارض فيه الحقيقة بالوهم . كلها أيضا انكبت على عنصر الذاكرة والسيرة الجماعية في تركيب سردي مفتوح على تعددية الأجناس واللغات والخطابات وتكسير أوهام الرواية الواقعية بشكل تتعدد فيه نوافذ الحكي وتتسع فيه رئات المتخيل على مساحات متخيل متحرر من النظرة الانعكاسية المباشرة في علاقة الرواية بالوجود والعالم .

هوامش الدراسة :

1 – ثريا ماجدولين : « أثر الطير « المركز الثقافي للكتاب . ط1 / 2025 . الدار البيضاء . المغرب .
2 – را في هذا الصدد : حسن أوزال « منطق الفكر و منطق الرغبة « – أفريقيا الشرق . ط1 / 2013 . الدار البيضاء
3 – هشام ناجح : « الشجعان « . المركز العربي للكتاب . ط1 / 2024 . الدار البيضاء .
4 – ميخائيل باختين : « جماليات الإبداع اللفظي « ترجمة شكير نصر الدين . ص 149 . دال للنشر و التوزيع . 2013
5 – يراجع في الموضوع ، جان بوديار : ( المجتمع الاستهلاكي ) ترجمة خليل أحمد خليل، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1995، ص
6 – نفس المرجع السابق . ص48
7 – يستند منطق الإبدال الرمزي المرآوي إلى رمزيات الأبنية البلاغية من تشبيه و استعارة و كناية .
8 – محمد الداهي : « متعة الإخفاق « . المركز العربي للكتاب . ط1 / 2022 . الدار البيضاء .
9 – جمال بندحمان : « محنة ابن اللسان « أفريقيا الشرق . 2024 .
ياسين عدنان : « هوت ماروك « دار العين للنشر 2015 .


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 10/10/2025