ظل المثقف المغربي، في مراحل حاسمة ومفصلية من تاريخ بناء المغرب المعاصر، خاصة بعد الاستقلال، منخرطا في دينامية النضال المجتمعي، منفعلا ومتفاعلا، قبل أن تكتسح الفضاءَ العموميَّ ثقافة ُالصورة وتسطيح الثقافة وهيمنة ما يسمى بـ»المؤثرين»، خاصة في ظل تآكل الفضاء العمومي وأوله الإعلام العمومي الذي شكل لعقود فضاء لمطارحة الرؤى، وتدافع المشاريع المجتمعية بين المفكرين والمثقفين، ومنبرا لتشكيل الرأي العام وبناء المشترك الرمزي، ما أثر على دور وحضور هذا المثقف.
اليوم، وجيل z يعيد تشكيل السلوك الاحتجاجي ويبني خطابه، ويتخذ مواقفه من داخل الفضاء الافتراضي، يحق لنا أن نتساءل:
هل لا يزال المثقف المغربي مواكبا للتحولات الجارية اليوم، تحولات السياسة والثقافة والاقتصاد؟ أي دور له في توجيه وتشكيل وعي الجيل الجديد بعد تدخل أنماط جديدة في هذه العملية، ممثلة في وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، وبالتالي القطع مع المتدخلين التقليديين كالدولة والأحزاب والإعلام والمثقفين الذين شكلوا لعقود مرجعيات موجِهة وفاعلة في بناء الانتماء.
كيف قرأ هذا المثقف احتجاجات جيل «z»؟ هل من زاوية القدرة على الاستمرار والتجدد داخل المجتمع، أم انطلاقا من التأطيرات التقليدية للفعل الاحتجاجي؟ وهل غيّر ما حدث نظرته إلى هذا الجيل؟
جيل «الزاي» و»ياء» الواقع؟
يرى الباحث في السرديات والناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين أن « هناك تسرعا في الوصف هذا الجيل بجيل «z» وإسقاطا في التأويل. إن المقصود بهذا الجيل مواليد ( 1995و2012)، موضحا، كما كتب على حائطه الفايسبوكي، أنه» إذا كانت هذه الصفة الجيلية تنسحب على الغرب، فهي لا تنسحب على أجيالنا لأن الصيرورة التاريخية مختلفة. صحيح ولد هذا الجيل بأنامل تلامس الشاشة، لكن التطور السريع جعل أنامل كل الأجيال المغربية تنقر الشاشة، وإن بشكل مختلف عما يقوم به هذا الجيل في منصات الألعاب الإلكترونية. لا بد لنا من تحقيب مختلف للأجيال في المغرب، لنضع هذه الاحتجاجات في سياقها التاريخي، لأن الوسيط الرقمي ليس سوى أداة حلت محل وسائط قديمة وظفها المغاربة للاحتجاج منذ الظهير البربري 1930. تغيرت الأداة، لكن ما تحمله من رؤى لم يغير كثيرا من واقع الاحتجاجات…»
ولخص يقطين أسباب احتجاجات 27 شتنبر في نقطتين: «لحظية، وتتمثل في كارثة مستشفى أكَادير، التي عرت المغطى. وتاريخية وتبرز في التفاوت المذهل بين واقعين: ألف وياء. أما الألف فيبدو في سرعة الإنجازات المتعلقة بـ2030. ونرى الياء في غياب مشاريع موازية متصلة بالواقع الاجتماعي. «
وأضاف أن «هذا الجيل ليس مُنبتّا. وليس الوسيط الرقمي سوى أداة. أما جذور الاحتجاجات فهي بنيوية ومتواصلة، ويكفي ربط الأجيال المتعاقبة منذ الاستقلال بالاحتجاجات إلى اليوم، لنكشف زيف ما يقال عن «الزاي». يمكننا البدء بالجيل الأول الذي ولد مع الاستقلال، والذي امتد إلى 1975. عايش هذا الجيل انتفاضة مارس 1965، وكان سببها التعليم. وعايش الجيل الثاني (السبعينيات والثمانينيات) إضرابات 1981 و1984، كما عايش المسيرات ضد الحرب على العراق، ودعما لفلسطين. أما الجيل الثالث (الألفية الجديدة) فعاش مع الربيع العربي (20 فبراير)، وعاين الحرب الصهيونية على غزة. كما عايش كل الاحتجاجات المختلفة، التي لم تكن تخلو منها أي لحظة في تاريخنا «الرقمي».
ما يسمونه جيل «z»، حسب يقطين، ليس جيلا واحدا. ف»النوع الأول ضحى آباؤه بالملايين من أجل تعليمه في المدارس الخاصة، لكي يكتسب جنسية أخرى ويقيم في بلد آخر. أما الثاني فكان ضحية التعليم العمومي، الذي أفرغ من محتواه متروكا للتهميش واللامبالاة. يلتقي النوعان في الولادة مع الثورة الرقمية. لكنهما معا، وإن باختلاف، لا يفكران إلا في هجرة بأوراق ثبوتية، وبراتب شهري ممتاز، أو بهجرة سرية في قوارب الموت…»
زورو يقود الربيع الدائم
الشاعر والإعلامي عبد الحميد جماهري كتب في محاولة للاقتراب من جيل Z أن «هذا الجيل يمكن اعتباره حفيد المتمردين الأوائل كما هو دون دييغو دي لافيغا«إنه جيل جديد»، مضيفا أنه «لن يسهل علينا مقاومة إغراء مقارنة توقيع جيل Z على احتجاجه ورمزيته بالقصة الخيالية الرومانسية للبطل زورو في الحكي الروائي، كما خرج من مخيلة جونستون ماككوللي (Johnston McCulley) عام 1919، ثورة عرابي في الثورية العربية، والسرد السينمائي الحالم منذ 1920، وما زال، يحظى بانتباه سينمائي وتلفزيوني خاص(…)وفي التقاطع أيضا السلسلة الأمريكية التلفزيونية «زورو: جيل z» مثل زورو، الذي يوقع بضربة سيف بحرف z ، يوقع الجيل الجديد بالحرف ذاته مستبدلا الحصان بركوب موجة الرقميات والخوارزميات، وهو أيضا يحرص على أن يظل مقنعا وغير معروف من قبل الآخرين».
ويضيف جماهري أن «الانتماء، في حد ذاته، هو توقيع على هوية جماعية تحمل الحيلة ( كما في الثعلب الإسباني في اسم زورو) يحارب ضد الظلم والقوة والقهر ويهدف إلى حماية الضعفاء..» معتبرا أن «البحث عن مصدر الغضب في الخارج، هو محاولة لإثبات أن فصل الصيف يفسر سقوط الثلج: الأسباب في الداخل، في العمق الاجتماعي»، مشددا على أن «في هذا الجيل بذور الغليان التي تتوافق مع موجة غضب صامت. سقف المرحلة لديه ومظلتها هو المطلب الاجتماعي…»، ومؤكدا أن «جيل المغرب الجديد «لم ينبع من فراغ في بلاده حتى نقول بأن هناك أياد تشتغل على غضبه، بل هو من صميم حرية العهد الجديد» الشارع أصبح في ربيع دائم».
عيون مغروسة في الشاشات…مفتوحة على الواقع
الشاعرة دامي عمر لم تخف فرحتها ودهشتها في الآن ذاته من هذا الجيل الذي كسر كل التوقعات والتصورات حوله بالانقطاع عن الواقع قائلة إن «من خالط هذا الجيل سيشعر بذلك الإحساس الجميل الذي ينتاب كل شخص يرى زهرة تشرئب وسط كومة زبالة أو حطام ..الجمال الذي يباغتك، مفارقة الجمال الذي يناكف القبح ويعلو عليه ..ترى في الترامواي شابا او شابة بسماعات تحجب عنه الأصوات، بعينين مغروستين في شاشة تتغير فيها الصور بسرعة مذهلة ،تراه منعزلا منفصلا ..كونيكتي مع عوالم اخرى ،ديكونكتي مع عالمه، لكن فجأة يقوم متخليا عن مقعده ،يمد يده اليك ليساعدك على الجلوس ،ثم يعود الى تيهه غير مهتم بابتسامتك ولا بعلامات الدهشة والامتنان على وجهك ..هذا الشباب المتعدد في ميولاته الموحد في تيهه ،القوي في صمته المتحدي في مظاهر لامبالاته ،هذا الشباب الذي قصفوه بأنواع البرامج ،والمتاهات والتفاهات ،هذا الجيل الذي يشهد بقلب متيقظ ووعي هادئ انهيار المدرسة والحزب والنقابة وحتى الاسرة ،انهيار القوانين والمواثيق والاتفاقيات ،انهيار القيم والافكار والأحلام ،هذا الجيل الذي رآنا نضرب على قفانا ، ونسحق تحت حوافر حمر الوحش وبياعي الوعود وسراق الآمال ..تتداخل في مشاعره مشاعر الشفقة والرفض واللوم ،يرانا ضعافا مفرطين ،يرانا عاجزين مترددين ،ومع ذلك لا يعلي علينا صوتا ولا يشهر في وجهنا لوما او قصاصا ،هذا الشباب الجميل ،الخلوق المؤدب ،الذي شتتته وسائل التواصل، وجمعته في آن، أمطرته بالغث، ومع ذلك مكنته من المشاركة في إسقاط أعتى السرديات ،واكتشاف العالم بطريقته معتمدا على استراتيجيته الخاصة ووسائله التي لا نعرف عنها الا اللمم…» .
حِينَ يَمُرُّ ٱلْحِرَاكُ عَبْرَ عُلْبَةِ مُنْتَجٍ!
الشاعر والإعلامي والباحث مصطفى غلمان في قراءته للسياق العام لحركة جيل Z يرى أنه «في مشهد سياسي يغلب عليه الصمت والرتابة، جاءت حركة «جيل زد» لتُحدث صدعًا في جدار اللامبالاة، مستنكرة ما سمّته «فشل التسيير واستقالة الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية». لكنها بخلاف موجات الاحتجاج السابقة، اختارت أن تنقل الفعل النضالي من الميدان السياسي إلى المجال الاقتصادي، بإطلاقها حملة مقاطعة تستهدف منتجات الشركات التابعة لرئيس الحكومة ، بوصفه رمزًا لتزاوج المال بالسلطة، وتجسيدًا لاختلال عميق في بنية العدالة الاقتصادية والسياسية في المغرب(…).
يرى غلمان أن «جيل زد» لا يعبر عن غضب عابر، بل «عن وعي جديد يعيد ربط الاقتصاد بالأخلاق، والاستهلاك بالعدالة. فحين يرفض المواطن أن يشتري من يدٍ تمسك بالسلطة والثروة معًا، فإنه يقول ضمنيًا: “أنا أمتنع لأني أقاوم»، مضيفا أنها”مقاومة ما بعد الحداثة، صامتة ولكنها ذات دلالة كثيفة، تضع المنظومة النيوليبرالية أمام سؤال جوهري: هل ما زال بإمكان السوق أن يحتكر الإنسان، أم أن الإنسان بدأ يستعيد حقه في قول «لا» بلغة السوق نفسها؟
ويضيف غلمان أن ما يفعله «جيل زد» إذن «ليس احتجاجًا بالمعنى التقليدي، بل تجربة في الوعي الجمعي الجديد، تتجاوز مطلب الإصلاح إلى مساءلة البنية الأخلاقية للسلطة.(. ..)إنها ثورة هادئة تتغذى من الوعي، وتعلن أن الاقتصاد لم يعد محايدًا، بل أصبح حقلًا للصراع الاجتماعي والسياسي. وحين يختار الجيل الجديد أن يقاوم بالامتناع، فإنه يضع يده على مكمن الداء: اقتصاد بلا عدالة، وسلطة بلا مساءلة، ودولة بلا إنصات (…)وها هو الجيل الجديد، بذكاءٍ رقمي وأخلاقيةٍ احتجاجية هادئة، يعيد للسياسة معناها النبيل: مقاومة بالوعي، لا بالضجيج».
مساران ثقافيان
القاص والكاتب لأبو يوسف طه يرى أن هذا الجيل يحتاج الى تعامل مختلف، والى الوعي بأنه «جيل يرتكز تلقيه الثقافي على الثقافة السريعة متمثلة في الصورة أساسا والوصول الفوري للحدث وسعة المجال والتواصل الممتد خلاف الأجيال السابقة المميزة ثقافتها بالبطء، والاعتماد على الكتاب والسمعي والمرئي ومحدودية التواصل ، هذان أمران لهما تأثيرهما(…)
وعن التفاعل السريع وأدوات التواصل يقول « كنا كجيل نستمع للزعيم السياسي كأنه القائل الوحيد . الآن العالم كله والقائلون الكثر بين أيدينا في جهاز أقل من حجم كتاب الجيب يمكن توفير تواصل بالغ السعة بين الأقران وغيرهم من خلاله كما فعل جيل Z».
الشعب يريد إسقاط الخوف
الشاعرة والإعلامية عائشة بلحاج اعتبرت أن «خروج جماعات من «الجيل «Z في المغرب إلى الشارع مطالبةً بتحسين الخدمات الصحّية والتعليمية، أظهر أن كل شيء يحدُث لسبب، فالمطالبة بتعليم أفضل كشفت نوعاً آخرَ من سوء التعلّم، وهو الأسوأ، تعانيه السلطة التي لا تتعلّم من أخطائها، وتُكرّر الفعل القاتل نفسه، وهو القمع. وأنّ أسوأ أنواع المرض هو ضعف النظر لدى المسؤولين الذي جعلهم يرون الأمور على غير حقيقتها. وماذا يفعل سائقٌ سيئ النظر بالركّاب؟»
بلحاج ترى أن هذا الجيل «أخضع الجيل اليانع القبضة الأمنية، التي صارت تتحكّم في الحرّيات والحقوق في المغرب منذ سنوات في أول امتحان حقيقي(…)، مضيفة أن «ما لم تتعلّمه القبضة الأمنية، أن الأجيال الجديدة تتعلّم وتلتقط ولو من بعيد. ولذا كان من الطبيعي في عصر التواصل أن يلتقط شابٌّ من أقصى الأرض سلوكاً رآه في الطرف الآخر من الكرة الأرضية. ولم يكن بالإمكان توقّع المنطقة التي تنتقل إليها عدواه لمنعها. وقد يناسب هذا السلوك البيئة الجديدة التي انتقل إليها أكثر وستمتصُّه كالإسفنجة، ويصبح جزءاً منها. وليس على البيئة الصحّية سوى التفاعل معه بحسب قدرتها، أمّا البيئة المُلوَّثة فهي ستدخل في صراع ضارّ معه»، لتخلص إلى القول بأن «الجيلZ « أشعل فتيل الاحتجاج على الفساد في أقصى الأرض، ومن دون ترتيب جغرافي أو تاريخي وصلت الكرة إلى المغرب قافزةً عن عشرات البلدان، فبعض الأحداث الكبرى في التاريخ لم تحتج كثيرَ تخطيط، بل كانت تداعيات ناتجة من تداعيات غيرها».