خطاب الملك يرسم ملامح التحوّل: إصلاح العقليات قبل القوانين

فيصل العراقي (*)

في لحظةٍ كان فيها الشارع متوتّرًا، والنخبة متردّدة، والانتظارات مرتفعة، اختار جلالة الملك محمد السادس أن يُخاطب المغاربة بلغة الهدوء والعقل، لا بلغة الانفعال أو التصعيد. خطاب افتتاح الدورة البرلمانية لسنة 2025 لم يكن ردًّا على الغضب الشعبي، بل كان بوصلة لما بعد الغضب، يؤسّس لمرحلةٍ جديدة تُدار بالعقل لا بالضجيج.
أولاً: هدوء القيادة في زمن الارتباك
بينما كانت بعض الأصوات تنتظر “غضبة ملكية” أو قرارات استثنائية، جاء الخطاب مخالفًا للتوقّعات السطحية، ومعبّرًا عن ثبات النموذج المغربي في إدارة الأزمات.
فبدل أن يوجّه اللوم أو يلوّح بالعقاب، ركّز الملك على تشخيصٍ هادئٍ وعملي للمشكل الحقيقي:
“التحول لا يبدأ بالقوانين، بل بتغيير العقليات وتسريع الأثر في حياة المواطن.”
بهذه العبارة، وضع الملك جوهر الإصلاح الحقيقي:
الانتقال من ردّ الفعل إلى التخطيط، ومن تكرار الوعود إلى صناعة النتائج.
ثانيًا: بين عقل الدولة وعاطفة النخبة
المفارقة الكبرى في المشهد المغربي اليوم أنّ الملك يتحدث بمنطق الدولة، بينما كثير من النخب السياسية والإعلامية تتحدث بلغة الانفعال. النخبة تُعلّق على اللحظة، أما الملك فيُخطّط للأفق.
النخبة تنفعل بالمشكلة، أما الملك فيعالج السبب. الخطاب الملكي أعاد ضبط الإيقاع بين الزمن السياسي القصير للنخب والزمن الاستراتيجي الطويل للدولة.
فالمغرب لا يحتاج إلى من يصنع الضوضاء، بل إلى من يصنع الثقة والنتائج.
ثالثًا: من خطاب الغضب إلى خطاب الأثر
أكد الخطاب أن المطلوب اليوم هو جيل جديد من البرامج التنموية.

يُنجز بسرعة أكبر ويُحدث أثرًا أقوى في حياة المواطنين، مع علاقة رابح–رابح بين المدن والقرى،وتنميةٍ متوازنة تقلّص الفوارق الاجتماعية والمجالية.
لم يكن الخطاب سياسيًا ضيقًا، بل إصلاحيًا شاملًا، يرى التنمية كأداة لبناء الثقة، ويُذكّر البرلمان والحكومة بأن الوقت ليس للخطابات بل للفعل الميداني.
رابعًا: القيادة بالهدوء لا تعني التراخي
الهدوء في خطاب الملك ليس حيادًا، بل قوة انضباط ووعي باللحظة. ففي زمن التوترات، من السهل أن تصرخ، لكن الصعب أن تُفكّر، وتُخطّط، وتُصلح دون أن تُسقط المؤسسات.
القيادة الهادئة التي يمارسها محمد السادس هي قيادة تراكمية،
تبني بالثقة لا بالخوف، وتُقوّم بالعمل لا بالعقوبة، ولهذا قال في جوهر الرسالة: “نريد أثرًا ملموسًا وسرعة في التنفيذ.”
هي دعوة إلى الانتقال من ثقافة القول إلى ثقافة الأثر.
خامسًا: النموذج المغربي… الإصلاح بالعقل لا بالعاطفة
منذ توليه العرش، حرص الملك على أن يكون الإصلاح مسارًا مستمرًا لا ردّ فعل ظرفي.
اليوم، في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية عالمية، يُعيد الخطاب الملكي تعريف “القيادة leadership” في المغرب:
ليست قيادة الغضب أو التهديد، بل قيادة التوازن، الإصغاء، والتصحيح الهادئ. إنه نموذج نادر في زمنٍ تتغلب فيه العواطف على المؤسسات، ونخبة تبحث عن التصفيق أكثر مما تبحث عن التغيير.
لكن المغرب، بقيادة محمد السادس، يثبت أنّ الهدوء يمكن أن يكون ثورة في ذاته. حين يتكلم العقل في زمنٍ صاخبٍ بالأصوات المتسرّعة، يُثبت الملك محمد السادس أن أقوى صوتٍ هو صوت العقل.
خطابه لم يكن ردًّا على الشارع، بل ردًّا على العجز الفكري للنخبة، ورسالةً تقول: إنّ الإصلاح لا يُدار بالصراخ، بل بالحكمة، والجرأة، والعقل المستنير.
المغرب لا يحتاج إلى نخبة تغضب، بل إلى قيادة تفكّر. وقد وجدها في ملكٍ حكيمٍ… يقود بهدوء، ليُغيّر بثبات.

(*)خبير في الابتكار والأثر الاجتماعي

الكاتب : فيصل العراقي (*) - بتاريخ : 14/10/2025