في أعالي جبال الأطلس المتوسط، حيث تلتقي سلاسل الجبال الشاهقة مع سماء المغرب الصافية، وعلى بُعد نحو ستة عشر كيلومترا من مدينة خنيفرة، تقع أطلال قلعة فازاز، التي عُرفت أيضا بـ «قلعة المهدي» نسبة الى الأمازيغي المهدي بن توالا اليخفوشي الزناتي بن شوصح بن خلف الله الذي شيدها خلال القرن 10 للميلاد، هذه القلعة ليست مجرد بقايا جدران قديمة أو حجارة مهدمة، بل هي شاهد على تاريخ عريق وحافل، يتجاوز مجرد كونها موقعا عسكريا أو أثريا، بل كانت يوما ما مركزا حضاريا وعسكريا ذا تأثير بعيد المدى، وهو ما يجعلها أحد أعظم المعالم التاريخية التي تحتاج إلى المزيد من الاهتمام والحماية باعتبارها رمزا لمرحلة هامة في تاريخ المغرب الوسيط.
تاريخ القلعة: من الفتح إلى المجد العسكري
تأسست قلعة فازاز في بداية الألفية الثانية على يد المهدي بن توالا اليخفوشي الزناتي، أحد القادة العسكريين البارزين من قبيلة زناتة الأمازيغية، التي كانت لها دور محوري في تاريخ شمال أفريقيا، كان المهدي بن توالا اليخفوشي قد أتى من قبيلة بنو يحفش، وهي إحدى قبائل زناتة الأمازيغية التي استعصت على الغزو والاندماج السهل مع القوى التي كانت تحاول السيطرة على المنطقة، قامت قبائل زناتة بإنشاء عدة حصون حصينة في هذه المنطقة الوعرة من جبال الأطلس المتوسط، ولكن قلعة فازاز كانت من أعظم هذه الحصون، إذ جمعت بين الدفاع القوي والموقع الاستراتيجي، ما جعلها موقعا أساسيا للسيطرة على الطرق التجارية والهجمات العسكرية.
تم بناء القلعة باستخدام الحجارة، والأجر، والجير، وكان تصميمها يعكس عبقرية المهندسين الأمازيغ في مواجهة صعوبة التضاريس الجبلية، كانت فازاز مدينة متكاملة تضم العديد من المرافق بما في ذلك الأسوار المرتفعة، والأبراج التي كانت تستخدم كمنصات مراقبة، والشوارع المنظمة التي تشهد على عظمة المدينة في ذلك الزمان، وكانت بالتالي مركزا سياسيا وعسكريا في وقتها، ما جعلها مكانا مفضلا للعديد من الملوك القادمين من مختلف أنحاء المغرب ومنطقة شمال أفريقيا.
الحصار المرابطي: قوة الحصن وأسطورة الصمود
أحد أبرز الأحداث العسكرية التي ارتبطت بتاريخ قلعة فازاز هو الحصار الذي فرضه يوسف بن تاشفين، مؤسس الدولة المرابطية، على القلعة في الفترة بين 1063م و1072م، كان الحصار قاسيا وطويلا، إذ استمر لمدة تسع سنوات، ولم يتمكن بن تاشفين من اقتحام القلعة إلا بعد التوصل إلى اتفاق صلح مع أهل المدينة، هذه الحكاية التاريخية تسلط الضوء على مناعة القلعة وأهمية موقعها الاستراتيجي، الذي جعلها قادرة على مقاومة أشهر القادة العسكريين في المغرب، كان هذا الحصار من أبرز أحداث عصر المرابطين، ويبرز قوة البنية الدفاعية التي بنيت من قبل المهدي بن توالا اليخفوشي، والتي بقيت شامخة في وجه أقوى الجيوش.
مرت فازاز أيضا بفترة من التاريخ السياسي التي أعطتها طابعا خاصا في الذاكرة التاريخية المغربية، فقد كانت في فترة من الفترات، مكانا للمنفى، حيث استقر فيها المعتمد بن عباد، آخر حكام إشبيلية، بعد سقوط دولة بني عباد أمام المرابطين، حيث تم نفي المعتمد إلى فازاز، التي كانت في ذلك الوقت مركزا ذا طابع سياسي مميز، بعد أن انهارت دولته، تقول الروايات التاريخية إنه قضى فترة من الزمن في القلعة قبل أن يتم نقله إلى أغمات، حيث توفي في الأسر، كما ابنه الرشيد أيضا لقي حتفه في المدينة ودفن فيها، ما جعل من فازاز رمزا منفى لآخر ملوك الأندلس.
كما كان يطلق على فازاز لقب «مدينة منفى المعتمد» أو «مدينة العزلة»، نظرا لارتباطها المباشر بتلك الأحداث السياسية التي شهدتها. هذه الفترة، التي عاش فيها قاضي قضاة بالأندلس، المعتمد بن عباد وآله، في حقبة لاتزال حلقتها مفقودة، أضافت إلى فازاز هالة من الأساطير حول المدينة، ما جعلها أكثر شهرة بين المؤرخين والمثقفين المغاربة.
الحريق الغامض والنهاية السياسية
من بين أبرز الأحداث التي شهدتها فازاز الحريق الكبير الذي دمر أجزاء واسعة من المدينة في فترة ما، قد تكون هذه الحادثة علامة على أن المدينة لم تنتهِ بسبب غزو خارجي أو هجوم عسكري، بل ربما كانت ضحية لقرار سياسي، تشير الاكتشافات الأثرية التي جرت في الموقع إلى أن المدينة تعرضت لحريق شديد، إذ تم العثور على أواني خزفية ومعدنية ملتزقة ببعضها بسبب تعرضها لدرجات حرارة عالية جدا. بعض الباحثين يرون أن هذا الحريق قد يكون ناتجا عن قرار سياسي لتدمير المدينة، إما بسبب فشلها في الدفاع عن نفسها في مواجهة الغزاة، أو ربما كان هذا التدمير خطوة استراتيجية لتغيير المشهد السياسي في المنطقة.
على الرغم من الغموض المحيط بسبب هذا الحريق، فإن هذه الحادثة تشير إلى تحول دراماتيكي في تاريخ المدينة، ليضاف إلى الأساطير التي تحيط بها. بعض الباحثين يرون أن فازاز تعرضت لعملية تدمير شاملة بناء على قرار سياسي قد يكون مرتبطًا بالأحداث الكبرى في تاريخ المغرب في تلك الفترة.
الإهمال والنهب: فازاز في عصر النسيان
على الرغم من القيمة التاريخية الهائلة التي تحظى بها فازاز، فإنها تعرضت لإهمال طويل الأمد، بعد أن فقدت المدينة قوتها العسكرية وبدأت تنسحب من الساحة السياسية، شهدت فازاز تدهورا تدريجيا استمر عبر القرون، ابتداء من العصور الوسطى وحتى العصر الحديث، تم نسيان القلعة إلى حد كبير، وبدأت أجزاء كبيرة من المدينة تتعرض للتدمير والتجاهل من قبل الحكومات المحلية.
مستوى الإهمال الذي شهدته فازاز كان مروعا، فقد أُهمل الموقع لفترات طويلة، وتحول إلى مكان للنهب والسرقة من قبل السكان المحليين الذين استغلوا الحجارة الأثرية في بناء منازلهم أو استخدموها لأغراض أخرى، بالإضافة إلى ذلك، تعرضت العديد من القطع الأثرية الثمينة التي كانت تنتشر في المكان، مثل العملات القديمة، والفخار، والأسلحة، إلى السرقات المتعددة، ما جعل جزءا كبيرا من التاريخ المادي لهذه المدينة العريقة يضيع مع الزمن.
إحياء الذاكرة والحفاظ على الموقع
منذ بداية التسعينات، بدأ الاهتمام بهذا الموقع يزداد تدريجيا بفضل الجهود التي بذلها عدد من الباحثين والمهتمين بتاريخ وآثار المغرب، وفي فبراير عام 2019م، تم إعلان فازاز جزء من التراث الوطني المغربي، وهو ما يشير إلى بداية جديدة للموقع الذي كانت قد طمسته عوامل الزمن، جاء هذا التغيير بعد أن بدأت وزارة الثقافة المغربية في العمل على إدراج الموقع ضمن برامج البحث الأثري، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير لحمايته من المزيد من التدمير.
أعلنت وزارة الثقافة المغربية في ذلك العام عن خطط لتوسيع المسح الأثري في فازاز، ووضع قوانين لوقف عمليات النهب والتدمير التي كانت تحدث على مر السنين. كما تم إطلاق مشروع وطني للحفاظ على الموقع، مع التأكيد على أهمية فازاز باعتبارها معلمًا تاريخيًا حيويا يروي جزء من تاريخ المغرب الوسيط.
وحسب الباحث في الثقافة الأمازيغية، محمد شفيق، فإن كلمة «فازاز» مشتقة من الكلمة الأمازيغية «أفزا» أو «ثفزة» التي تعني الصخر الخشن، وربما هذا راجع إلى الطبيعة الوعرة لتضاريس المكان ولتقلب أحوال الجو فيه، بالإضافة إلى أن عدة خرائط تتضمن أسماء أماكن مثل (تفرن نثافزة، مثافزا، بوفزا، أيتثفزة، إفزيوين، إفزازن، إشبوفزا)، كلها أسماء مشتقة من كلمة «أفزا» وهذه هي الدلالة التاريخية ل «فازاز».
فازاز عند المصادر التاريخية
ولا تكتمل حكاية فازاز دون شهادات بعض المؤرخين، فقد جاء في كتاب «الاستبصار في عجائب الأمصار»، لمؤلفه المراكشي المجهول، وصف دقيق للقلعة ومصير من نفي إليها: «وفي هذا الجبل قلعة كبيرة تنسب للمهدي بن توالى الجيفشي وهي في نهاية المنعة، أقام عليها عسكر اللمتونيين سبعة أعوام، وبناؤها بالألواح، وإليها كان تغريب المعتمد بن عباد، فقال متمثلا حزينا بنقض العهود: لبلد أهله يهود، وبناؤه عود، وجيرانه قرود»، شهادة تختزل عذاب القاضي الأندلسي في منفى جبلي شديد العزلة، وتعكس في الآن ذاته مناعة القلعة واستحالة اقتحامها.
وبدوره قال صاحب كتاب «الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى»، أحمد الناصري: «..ولما دخلت سنة خمس وثلاثمائة وألف غزا السلطان مولاي الْحسن أيده الله آيت ومالو من برابرة فازاز وهم بطن من صنهاجة يشتمل على أفخاذ كثيرة مثل ظيان وبني مكيلد وشقيرين وآيت سخمان وآيت يسري وغَيرهم أُمم لا يحصيهم إِلّا خالقهم قد عمروا جبال فازاز وملؤوا قننها وتحصنوا بأوعارها منذ تملك البربر الْمغرب قبل الإسلام بأعصار طويلة فلما كانت السنة المذْكورة خرج السلْطَان من مكناسة الزيتون عاشر رمضان منها بِقصد غزو هذه القَبائل العاصية وتدويخ بلادها».
أما ابن خلدون، في كتاب «تاريخ ابن خلدون»، فقد أشار إلى أهمية فازاز ضمن سياق الحروب المرابطية، وذكر أن يوسف بن تاشفين ظل يحاصرها دون جدوى، قائلاً في تاريخه: «… واستلحم كثير من المرابطين، واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي بلاد فازاز، فارتحل سنة 1063م، ونزل عليها عسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلاد المغرب فافتتح بني مراسن ثم قبولادة، ثم بلاد ورغة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة هـ، ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين وأربعمائة هـ»، ما يدل على أن القلعة لم تكن فقط مركزا زناتيا، بل نقطة مفصلية في استراتيجية التوسع المرابطي.
وتتجدد الإشارة إلى القلعة في كتاب «كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر»، لأحمد بن قاسم المنصوري، الذي يربط بين القلعة وجبل عميرة، مشيرا إلى ربوة تدعى «الكارة»، ويذكر أن «المتولي بها مهدي بن تولي اليحشوفي الزناتي»، ويؤكد أنها «القلعة التي حاصرها يوسف بن تاشفين مدة تسع سنين، ولم تخضع لسلطنته»، كما يربط القلعة بنشأة القصبة الإسماعيلية، التي أسسها يوسف نفسه خلال الحصار، قبل أن يعيد بناءها المولى إسماعيل سنة 1099 هـ، ويعززها السلطان الحسن الأول لاحقا»، لتظل مركزا عسكريا إلى حدود الاحتلال الفرنسي سنة 1914م.
هذه المراجع التاريخية تضع قلعة فازاز في مصاف الحواضر السياسية والعسكرية الكبرى في تاريخ المغرب الوسيط، وتدل على أنها لم تكن مجرد حصن، بل شاهدا صامتا على تحولات كبرى في التاريخ السياسي الأمازيغي والإسلامي للمغرب، ومن شأن إعادة الاعتبار لهذا الموقع، أكاديميا وتربويا وتنمويا، أن تفتح أفقًا جديدًا لقراءة مغرب ما قبل الاستعمار، مغرب الهويات المحلية، والسلطنات المنسية، والملاحم المدفونة بين طيات الجبال، بعيدًا عن السردية الرسمية التي طالما تجاهلت مثل هذه الحلقات الغنية والمعقدة من تاريخ البلاد.
النداء من أجل مستقبل فازاز
اليوم، يظل موقع فازاز بحاجة إلى اهتمام أكبر، سواء من حيث التوثيق الأكاديمي أو الحماية الفعلية، يجب أن يكون هناك مشروع طويل الأمد لإحياء هذا الموقع التاريخي، وتوثيق أحداثه في المقررات الدراسية المغربية، بالإضافة إلى تشجيع البحث العلمي حوله. من الضروري أيضا تحويل فازاز إلى وجهة سياحية ثقافية ترتبط بتاريخ المغرب الوسيط، وتنمية السياحة الجبلية لتسليط الضوء على هذا التراث الغني.