الاتحاد وتحدي الانتقال إلى الدولة المحفزة

الحسين بوخرطة

 

 

 

 

 

 

 

يُعدّ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حزبًا تاريخيًا عريقًا، تميّز منذ نشأته بارتباطه العميق بانشغالات الجماهير الشعبية المغربية، وبتشبّثه الدائم بقيم الخبرة والكفاءة والمسؤولية في مختلف واجهات نضاله. فقد عبّر الاتحاديات والاتحاديون باستمرار عن نضج وطني رفيع، جسّدوه في خدمة الوطن والمواطنين عبر كل مراحل تطور الدولة المغربية. ولم يترددوا يومًا في الالتفاف القوي حول أكفأ زعاماتهم دفاعًا عن المطالب المشروعة للشعب.
لقد كان اختيار المرحوم عبد الرحيم بوعبيد سنة 1975 محطة فارقة في مسار الحزب، إذ حوّله بفضل كفاءته ورؤيته إلى قوة سياسية صادقة قدّمت التضحيات الجسام من أجل الحقوق والديمقراطية. ولا ينسى المغاربة كلمة التأبين المؤثرة التي ألقاها المرحوم عبد الرحمان اليوسفي في حق رفيقه، ولا مساره النضالي المتميز الذي انتهى باستقالته من العمل السياسي سنة 2003.
وموازاة مع بروز زعامات الحزب التاريخية، كان نجم المناضل الشاب إدريس لشكر يسطع يومًا بعد يوم، حتى غدا مبكرًا زعيمًا متبصّرًا بمواقفه الرزينة وحكمته البالغة. وقد أسهم بجدارة في تعزيز مناعة الحزب الداخلية، وتنشيط حركيته، وتجويد مواقفه، تاركًا بذلك بصمات راسخة في صفحات تاريخ المغرب المعاصر.
فبالرغم من صعوبة المرحلة التي تولّى فيها مسؤولية الكتابة الأولى، فقد تمكّن بحكمته وحنكته التواصلية من إخراج الحزب من مراحل الوهن والضعف إلى موقع الريادة في قيادة المعارضة البرلمانية خلال الولاية الانتدابية الحالية. وبفضل مثابرته اليومية وذكائه المتقد، استطاع حزب الوردة مواجهة التراجعات العالمية التي عرفتها التيارات التقدمية، وواصل تغذية التجربة الاتحادية بمصادر قوة جديدة رسّخت تمسّك المناضلات والمناضلين بثوابتهم التاريخية وقيمهم العليا.
وبفضل اجتهاداته ومواقفه السياسية الجريئة، استعاد الحزب المبادرة السياسية على المستويين الوطني والدولي، وأعاد إلى الساحة الفكرية روح التقدمية البناءة.
ومن ثمّ، فإن قرار تمديد ولايته خلال المؤتمر الوطني الثاني عشر (17 و18 و19 أكتوبر 2025) لم يكن سوى تعبيرًا مستحقًا عن إرادة المؤتمرات والمؤتمرين لضمان استمرار الاستفادة من خبرته في ظرفية وطنية ودولية دقيقة ومعقدة. لقد شكّل المؤتمر بحق محطة للتآخي والتضامن والعمل الجاد، تم التعبير من خلال أشغاله عن روح العمل الجماعي، وعن وعي المناضلات والمناضلين بأهمية المشاركة في بناء المواقف ونضج صياغة الأوراق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، استعدادًا لمرحلة سياسية أكثر وضوحًا في رؤيتها التنموية.
إن اختيارات الاتحاديات والاتحاديين خلال أيام المؤتمر الثلاثة عبّرت، كعادتهم، عن تشبّثهم بحق المغاربة في بناء مملكة قوية بمؤسساتها وشعبها. العالم اليوم يعيش تحوّلات دولية متسارعة لا ترحم المتراخين؛ إذ أفرط المنطق الليبرالي في الاعتماد على القوة والعنف بدل اعتماد الاستراتيجيات الناعمة. نحن أمام زمن أزمات الثقة واللايقين والتذمّر، وسط تصاعد الصراعات بين القوى الكبرى، وانغلاق الغرب على ذاته، وتنامي النزعات اليمينية المحرّضة على الكراهية والتمييز، خاصة تجاه المهاجرين. وإلى جانب ذلك، تتفاقم أزمة المناخ التي تهدد الحياة، خصوصًا في بلدان الجنوب، فيما أصبحت السيادات الوطنية أكثر هشاشة أمام الثورة الرقمية وضعف تأطيرها القانوني والتقني.
إن تجديد الثقة في إدريس لشكر هو في جوهره تعبير عن إرادة جماعية لمواصلة تقوية الذات الحزبية، وجعلها في صلب الجهود الرامية إلى بناء نموذج تنموي جديد يقوم على خطاب عقلاني واستراتيجيات طموحة قابلة للتنفيذ، تعيد الثقة في المؤسسات وتحدّ من مشاعر التذمّر لدى الأجيال الصاعدة.
إن المغرب، بما يملكه من ثروات بشرية وطبيعية ومؤسسات راسخة وثوابت وطنية وتراكمات سياسية ودستورية، يستحق مكانة أسمى مما هو عليه اليوم . ومن ثمّ، فإن الدفاع المؤسساتي والشعبي عن الديمقراطية والحقوق السياسية والاقتصادية، إلى جانب تخليق الحياة العامة، يبقى السبيل الأمثل لتبديد قلق المجتمع من أعطاب التدبير التي تفاقمت بعد سنة 2011.
لقد أصبح طموح الحزب بعد تجديد هياكله هو الوفاء لتاريخه ورموزه، وتجسيد رهانه على تجويد الخدمات العمومية وتوسيع فرص العيش الكريم لكل المغاربة.
وقد لخّص الكاتب الأول إدريس لشكر هذا الطموح في كلمته الافتتاحية للمؤتمر قائلاً:
“لقد آن الأوان للانتقال من دولة مسعفة إلى دولة محفّزة، تضمن تكافؤ الفرص في الوصول إلى المعرفة، والبنية الرقمية، والدعم المؤسساتي. دولة تفسح المجال للمبادرات، وتشجّع التجريب، وتراهن على الذكاء الجماعي، كما تتحرّر من الوصاية التقنية للممولين الدوليين، وتستعيد سيادتها في تحديد أولوياتها الاجتماعية.”

الكاتب : الحسين بوخرطة - بتاريخ : 28/10/2025