هل بقي للجزائر من هامش للمناورة، للهروب أو التمطيط؟
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
أثارت الدولة الجزائرية الكثير من الحديثَ ، بخصوص ما تسرب عن نيتها عدم التصويت على القرار الأمريكي الخاص بالموقف الجديد لمجلس الأمن، والمنتظر منه أنه سيضع نقطة النهاية لملف دام نصف قرن. وتنصيصه الواضح، على اعتبار الحكم الذاتي هو الحل الوحيد والأوحد للملف.
كما ازداد التعليق مع تولي جبهة البوليساريو، وليس دولتها الوهمية، إعلان الرفض للقرار كما توصل به قادتها، وبالحمولة نفسها حول الحكم الذاتي… وهو ما يعني تصريف الجمهورية الجزائرية مواقفها عن طريق واجهتها الانفصالية..
وإذا كانت صحافتها المأذونة هي التي تتكلم، لحد الساعة، عوض ديبلوماسيتها، فيمكن، مع ذلك، تحليل الموقف الجزائري على أساس ما سبق، وعلى أساس ما جرى في الاجتماع السابق لمجلس الأمن، باعتبار الجزائر عضوا غير دائم العضوية فيه ( دورة أكتوبر 2024) وعلى أساس »تململ« الموقف الروسي، وكذلك على خلفية المتحكمات المعروفة لديبلوماسيتها في تدبير الاعترافات المتزايدة بالحكم الذاتي.
وإذا كان الصمت الرسمي، هو الموقف الذي تبنته إزاء قرار مجلس الأمن المرتقب ، فهو الموقف ذاته،( الصمت) الذي التزمته إزاء التصريح الذي كان ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، مرفوقا بجاريد كوشنر ، عراب اتفاقيات أبراهام، قد أدلى به لقناة سي بي اس الأمريكية بخصوص اتفاق سلام بين الجزائر والمغرب، في ظرف شهرين!
من بين القراءات المتعددة الممكنة، نقترح التمييز بين الموضوعين، بالرغم من ترابطهما الجدلي، في وحدة الموضوع ثم في آفاق الحل. وعليه يحسن بنا أن نطرح الأسئلة الواردة هنا والآن :
ـ كيف تفكر الجزائر؟
ـ لماذا تعتبر بأن الهامش ما زال يسمح لها بالمناورة ورفض استئناف الموائد المستديرة ولا سيما تحت مظلة الحكم الذاتي؟
ـ وهل يمكنها أن تراهن على مواقف روسيا أساسا في محاولة لعب ورقة الوقت في تغيير معايير الحل؟
وفي هذا الباب لا بد من التنبيه أولا إلى أن الرهان الجزائري من داخل مجلس الأمن على موقف يمكنه أن يعطل القرارات الأممية، أو يعطل ويشوش على أجْرأتها في السنوات الثلاث الأخيرة، أي أن الجزائر سعت ، قبل القرار المنتظر، إلى مقاطعة الموائد المستديرة وكل قرارات مجلس الأمن بخصوص الصحراء منذ نونبر 2020، تاريخ تطهير »الكركرات«
وتلخيصا، يمكن القول إن مجلس الأمن انحاز لفائدة حل سياسي متوافق عليه، ورأت فيه انحيازا إلى المغرب في إقبار حل الاستفتاء الانفصالي…
كما تسوِّق الجزائر وممثلو البوليساريو أن الحكم الذاتي كان مبادرة مغربية بعد رفض المغرب الاستفتاء من طرفه..! والحال أن المغرب، قبل الاستفتاء منذ 1981، ولم يكن هو الجهة التي أعلنت استحالة تنظيمه، بل إن مجلس الأمن والأمم المتحدة، عبر المبعوثين الخاصين ومنهم من كان يناصر الطرح الجزائري ، هم من وقفوا على استحالة تطبيق الاستفتاء، وذلك ابتداء من 2004، وعليه صار الجهاز التنفيذي الأممي يــدعو »الأطــراف ودول المنطقــة إلى مواصــلة تعاونهـا التـام مـع الأمـم المتحـدة، لوضـع حـد للمـأزق الـراهن، ولإحـراز تقـدم نحـو إيجـاد حـل سياسي«. ..
وانطلاقا من قناعاتها عنَّ للجزائر أنه يمكنها أن تفرض على مجلس الأمن، (من جهتها)، التخلي عن .. العملية السياسية التي أصبحت تحظى بدعم من الأطراف الدولية..
وهنا راودتها الرغبة في أن تُلوّح بالتصعيد، والرفع من منسوب التوتر ، لكي يضطر مجلس الأمن إلى اعتبار أن المنطقة، في شمال إفريقيا وفي الساحل والصحراء، مهددة، بالحرب..،أنه بفعل الموقع الذي تختاره هي والانفصاليون سيتحدد مصير العملية السياسية!
ـ الخطوة الأولى كانت دفع البوليساريو إلى إعلان الخروج من اتفاق إطلاق النار، والدخول في مناوشات تعطي الانطباع بأن السلام مهدد في المنطقة. وهو ما قد يدعو مجلس الأمن، في نهاية المطاف، إلى وقف العملية السياسية والعودة إلى مرحلة وقف إطلاق النار وتنظيم الاستفتاء في 1991، وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 690 ..إلخ.
ـ الخطوة الثانية تجلت في عدم التجاوب مع القرار الدولي بالمشاركة في الموائد المستديرة.
واضح أن الهدف كان هو تعطيل المسلسل برمته. والحال أن الاتجاه العالمي صار عكس إرادتها، إذ تم الدفع بل الضغط على الأطراف المعنية من أجل استئناف المفاوضات .. لم تنجح في مزاوجة الخيار الحربي بالخيار الديبلوماسي، (وقف إطلاق النار ومقاطعة المسلسل السياسي) لكي تغير من معايير الوضعية الحالية، تواصل الاعتراف الدولي في محيطها الجيوسياسي والأورومتوسطي وفي جوارها البعيد (الصين أساسا).
بعد أن حدث التحول، تحاول الجزائر اليوم، من خلال تصرفاتها، تقديم «تأويل ذاتي» للتصريحات الروسية: ومنها قول لافروف بأن بلاده «لن تعارض الحكم الذاتي إذا توافقت عليه الأطراف المعنية»…
وبما أنها تعارضه فإنها تريد أن تترجم الموقف الروسي كسند لها، وهي في ذلك تحرج حليفها السابق وتأخذ بكلماته حرفيا، وعليه ستضع موسكو أمام موقف طرفين من الأطراف الأربعة المنصوص عليها في القرارات الأممية ضد الحكم الذاتي..وما يعنيه من مسلسل سياسي بدون أية آفاق استفتائية انفصالية..
ـ ولعل الجزائر تسعى كذلك إلى العمل بالتصريح الروسي الآخر: ومفاده »أن روسيا مع القوانين والأعراف الدولية« وهو ما كان المغرب قد دققه بالقول »، القانون نعم، ولكن ليس من أجل تمطيط النزاع والإبقاء عليه كما كان« بدون حل سياسي…
ولعل موسكو تدرك بأن المتغيرات الحاصلة تدفع نحو الحل السياسي المتوافق عليه، وهي بذاتها لم تنضبط للقوانين الدولية التي تقول بها، مادامت استعملت القوة في حل نزاعها مع أوكرانيا، وتخطت الوحدة الترابية للأوكرانيين، وتعمل من خارج المظلة الأممية للتسوية، وقائد هاته المساعي هو دونالد ترامب نفسه الذي يقف وراء القرار الحديث ومسلسل التسوية النهائي…
وعليه يتضح أن الموقف الدفاعي للجزائر لا مردودية له كما كان موقفها الهجومي سابقا …
إلى جانب المتغيرات والديناميات التي وقف عليها الجميع (التقرير. الذي قدمه غوتيريس يعطي مصنفا دقيقا بالوقائع) نلاحظ انكماش هامش المناورة حيث ضاق هذا الهامش إقليميا ودوليا، وفي المحيط الأورومتوسطي.
أولا:الهامش الإسباني: من يعود إلى حوليات القضية، سيعرف بأن المراحل الكبرى التي استفادت منها الجزائر كانت اللحظات التي نسقت فيها المواقف مع إسبانيا الفرانكوية وما بعد الفرانكوية: فكرة الاستفتاء نفسها التي تقيم الجزائر عليها كل دبلوماسيتها هي إسبانية في الأصل. كما أن الجزائر ظلت تستفيد من ترددات الطبقة السياسية الإسبانية في قضية الصحراء، والتي اعتبرت ، في تقدير المغاربة، ورقة ضغط لكي لا يفتح المغرب معها قضاياه الترابية والحدودية الأخرى.. إضافة إلى ما خلفته المبادرة المغربية لتحرير الأرض من آثار نفسية. وإفشال المخطط الموازي بقيام دويلة، لم تحقق نجاحا مع إسبانيا، ثم تبنتها وورثتها الجزائر بنفس المعادلة:خلق دويلة لتقليم خارطة المغرب وتقزيمه.
الذي حصل هو أن التحول الذي حصل في الموقف الإسباني أضاع على الجزائر ونخبتها ورقة ضغط، مع هامش مناورة كبير كانت تستفيد منه. كما فقدت الجبهة الانفصالية امتدادا مدنيا لا مثيل له في العالم، وضاقت الساحة الإسبانية كثيرا على التحركات الانفصالية..
ـ ثانيا: الهامش الفرنسي، باعتبار فرنسا صاحبة المقص الجغرافي الذي فصل المنطقة. ولعل أهم شيء هو قضية الحدود التي ظلت الجزائر تستند فيها إلى المنطق الاستعماري( أي الحدود الموروثة عن الاستعمار غير قابلة للمراجعة).
ولما فقدت الموقف الفرنسي اتضح أنها ستظل بلا سند دولي أو إقليمي بخصوص استعمال قضية الصحراء ورقة ضغط في تكييف طرح قضية الحدود المغربية الجزائرية..
الجزائر تطمح في أن تضيف إلى التراب الذي أقرته فرنسا ديغول لها، مخططها بالإطلال على الأطلسي..
ثالثا: المخرج الدولي وقد تمثل دوما في التقاطب الحاصل عالميا، والموروث عن الحرب الباردة، والذي تعرض لتحولات كبيرة، انتبه إليها المغرب منذ 2002، وثم 2006 و2016 ، في التقارب مع الصين وروسيا، وصاغ هوية جيوستراتيجية متوازنة تدرك بأن العالم المتعدد الأقطاب في طوره لإعادة صياغة القرار الدولي..
وانفتح كثيرا على روسيا، والصين، ونوع شراكاته الاستراتيجية، معهما ومع غيرهما، في حين ظلت الجزائر حبيسة النادي الإيراني الروسي الجزائري. والذي تعرض لتجريف كبير مع حروب الشرق الأوسط الأخيرة…
لم يعد اللعب على الورقة الروسية والصينية ذا مردودية جيوسياسية بالنسبة لها. واقعيا، وروسيا لم تعد تعمل بمنطق الحرب الباردة وإن حافظت على طموحاتها الجيوستراتيجية التي كانت لروسيا القيصرية… بمواضعات جديدة.
(يتبع: اتفاق سلام لحرب لم تقع)
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 28/10/2025

