كلمة : بنبركة وبناء المؤسسات المغربية
محمد الطالبي
التاسع والعشرون من أكتوبر ليس مجرد يوم في التقويم، بل هو جرحٌ مفتوح في ذاكرة الوطن، وشعلة لا تنطفئ في قلوب الأحرار. إنه اليوم الذي اختُطف فيه جسد المهدي بن بركة، لكن مع ذلك لم يُخطف فكره، ولم يُدفن معه حلمه بالعدالة والحرية، ولم يُسكت صوته الذي ظل يرن في ضمائر كل مناضل وكل حرٍّ يرفض الظلم والطغيان. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1965، حاول الغدر إسكات إرادةٍ وطنية، لكن الفكرة كانت أكبر من أي يَدٍ تريد أن تطويها، والرمز ظل حيًا في الوعي الجمعي كما لو أن الوطن نفسه يرفض أن ينسى.
لم يكن المهدي بن بركة مجرد سياسي أو معارض، بل كان رؤية وطنية متقدة، وعقلًا مؤسسًا للدولة الحديثة. تولى رئاسة المجلس الوطني الاستشاري سنة 1956، في تجربة أولى لبناء المؤسسات بعد الاستقلال، وكان هذا المجلس فضاءً لتجربة وطنية جريئة في التداول وإشراك القوى في صنع القرار. لكنه أراد أكثر من مجرد استشارة، أراده منبرًا للمواطن، وأداةً لضمان أن تبقى الدولة خدمة للشعب لا للسلطة وحدها. غير أن الواقع سرعان ما اصطدم بطموح الرجل الذي أراد للمؤسسات أن تكون سلطة شعبية لا واجهة شكلية.
من حزب الاستقلال إلى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حمل المهدي حلم بناء مغرب ديمقراطي متوازن، يربط بين الحرية والعدالة الاجتماعية، ويضع الإنسان في قلب القرار، لا في هامشه. لم يعرف المساومة، وكان معارضًا عن قناعة، ناقدًا من أجل الإصلاح، قبل أن تُغلق عليه أبواب الغدر في باريس، فدخل التاريخ شهيدًا للفكرة، ومثالًا للوفاء للوطن. وواصل رفاقه المسير، مؤسسين الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ليكملوا المشروع الوطني الذي حلم به المهدي، وهو حاضر غيابيًا كشاهد على استمرار المسيرة والنضال من أجل وطن أفضل.
لقد غاب الجسد، لكن الروح بقيت حيّة، تُلهم الأحرار، وترشد كل مناضل إلى أن الفكرة لا تُقتل، وأن الوطن يظل حيًا ما دام في أبنائه شرف وضمير. وكما قال الشاعر عبد الرفيع الجواهري:
«يا مهدي، يا وجعَ العُمرِ، يا وعدَنا المؤجَّل، ما زال فينا من نبضكَ قبسٌ، ومن خطوكَ مبدأٌ يُستأنف في كل فجرٍ جديد».
واليوم، ونحن نستحضر ذكراه، نجد المغرب يستمر في مسيرته، يبني الدولة الاجتماعية الحديثة، ويُعلي من قيمة العدالة والكرامة، ويعمل على ترسيخ مدرسة انتخابية نزيهة، تفتح المجال أمام طاقات جديدة وتعيد الثقة في العمل السياسي، تمامًا كما حلم المهدي، تمامًا كما وعد الوطن نفسه. فتاريخ المغرب يُظهر أن الوعي السياسي والحوار والعمل النزيه هي أركان الحياة الوطنية، وأن الوطن يظل أفقيًا رحبًا، حاضنًا لكل الأجيال ومستوعبًا لكل الرؤى النبيلة التي تصبو إلى الخير العام.
المهدي بن بركة حاضر في كل جهد شريف، في كل مشروع وطني، وفي كل خطوة نحو العدالة. هو شهيد الفكرة التي لا تموت، ورمز الوفاء، الذي يعلّمنا أن الحرية لا تتحقق إلا بالصدق والشجاعة، وأن الوطن الذي ينسى شهداءه يشيخ قبل أوانه.
وكما قال الجواهري في رثائه الخالد:
«نامي على حدِّ الرماحِ، فكلُّ ما في الأرضِ قد باعَ الجراحِ، نامي على وطنٍ يبيعُ رجالهُ، ويُقايِضُ الأحرارَ بالرياشِ، نامي فما ماتَ المهديُّ ولا انتهى، ما دام فينا الحلمُ والجرحُ الفَساحي».
ختامًا، إذا لم يتزين البرلمان بغرفتيه بصور المهدي وسيرته، فسلام على سيرة الخالدين، ودماء الشهداء التي تهبنا الإيمان بأن الأفكار لا تموت، وأن الوطن يبقى حيًّا ما دام فينا من يرفع شعلة الحق والعدالة. وسنواصل المسير، فقد قال شاعرنا:
«سيدي: رغم هذا الدجى، لانزال على دحره قادرينْ، لم نكن أبدا يائسينْ. إن كَبَتْ خيلُنا… سوف تأتي خيولْ، وعلى صهواتِ الجيادْ سنرى فتيةً رائعينْ، من تراب القرى ودروب المدنْ، سنراهم غدا قادمينْ».
فهذه الكلمات ليست مجرد شعور، بل وعد بالاستمرار، واستذكار الشهيد، وتحويل الحزن إلى أمل، والفقد إلى عزيمة للأجيال القادمة.
الكاتب : محمد الطالبي - بتاريخ : 30/10/2025

