تأملات في المهرجان الوطني للفيلم أفلام بدون سينما

 

إذا كانت مهمة السينما هي أن تمدنا بإجابة عن سؤال ما الجميل، فإن النقد السينمائي ليس سوى سؤال موجه إلى مخرج الفيلم عن معنى السينما في فيلمه. لذلك فإن ملحمة السينما فنيا هي جعل الفيلم في قلب أصل العمل الفني، أي وضع الحقيقة في صميم العمل، باعتباره مزيجا بين صور الذاكرة وصور الإدراك، لأن صورة الزمان هي نفسها صورة الحركة. ومن خلال التحكم فيها فنيا، يستطيع مؤلف الفيلم إبداع عمل سينمائي غاية في الجمال، يحرر الصورة من أسر الواقع لتسمو نحو آفاق شعرية. ولعل غياب هذه الصورة الشعرية هو ما يعجل بهروب الجميل من الفيلم، ليتحول إلى مجرد تمثيل تقني للسينما، لا بوصفها فنا، بل كمجرد مجاز للفن.
إن ما يعجل بنهاية السينما في الفيلم قبل بدايتها هو الغياب المطلق لشعرية الصورة وجماليات المشهد، فتغدو اللقطات مملة تزرع في المتفرج شعورا بالاغتراب والاكتئاب، فينسحب تاركا القاعة فارغة. السينما، إما أن تكون جميلة لا تمنحك فرصة إغلاق العينين، فضلا عن مغادرة القاعة، وإما أن تمسي محفزا على الانسحاب ونسيان الفن. فالمخرج الذي لا يعرف ما السينما، لا يمكنه أن يبدع فيلما سينمائيا، بل ينتج عملا تقنيا مزعجا ومقرفا.
ويبقى السؤال: إلى أي مدى استطاعت الأفلام المغربية أن تخترق شعرية الصورة وجمالية الجميل؟ وهل تمكنت من الحضور بقوة في الفيلم لإنقاذه من الابتذال والرداءة؟ ومتى يصبح اللعب بالصور في الفيلم مثل اللعب بالكلمات في القصيدة الشعرية؟
طالما أن السؤال هو السبيل إلى اختراق هشاشة الفيلم سينمائيا، فإن شعرية الصورة تظل لغة السينما التي ينبغي على الناقد تفكيكها بواسطة النقد الجمالي. فكما أن السينما إبداع للصور، فإن النقد إبداع للمفاهيم، وهذه هي صفة الفن السينمائي، حيث تولد صورة الجمال معه.
وبما أن العديد من الأفلام المغربية هاجرت من فن السينما إلى التقنية والمونتاج، فقد تحولت إلى مدخل للاغتراب والبؤس. وبقدر ما ابتعدت عن الواقع وهربت نحو ما بعد الواقع، بقدر ما ابتعدت عن الفن السينمائي، مما عجل بظهور الفقر الجمالي في السينما المغربية. وربما نشاهد هروب الجميل في الغسق، لكن السؤال: أين تؤسس هذه الأفلام ماهيتها الفنية إن لم تؤسسها في الفن؟ وهل تظل السينما ضرورية للحياة الإنسانية رغم ابتعادها عن أصل العمل الفني؟
ومهما بدا هذا العمل لذيذا، فإن الفيلم المغربي يدعو إلى الشفقة، لأنه فقد ذاته في السينما، وانشغل بالدعم أكثر من انشغاله بالفن. في الحقيقة، بدأ الجميل يختبئ في الجمال، لأنه لم يجد عملا فنيا رائعا يحتضنه. وهكذا تظل مسؤولية علم الجمال الفلسفي كبيرة في السينما، من خلال تجميل الفيلم سينمائيا، ليمنحنا جوابا عن سؤال ما الجميل في السينما. فالمخرج الكبير، كما يقول دلوز، هو المفكر العظيم الذي يتميز برؤية فنية.
المخرج المبدع يقاوم العدمية في الفيلم بواسطة الفن، لأن الفن وحده يقاوم الاغتراب الثقافي. ومن أجل إسقاط الفيلم في الفن، لا بد من إعادة كتابة السيناريو برؤية فنية بعيدة عن هموم الإنتاج والمونتاج، إلى درجة أن ينسى المخرج نفسه في عمله كما يفعل الرسام العظيم، فتغدو غايته هي السينما نفسها. وما لم تصبح هذه الغاية حياة في الفن وفنا في الحياة، فإن بإمكانه أن ينتج فيلما مجردا من السينما، أي سينما بدون سينما.
الفيلم حين يحتفل بالجميل، يسرنا على نحو ما بوصفه جميلا، لأنه ينقل إلى المشاهد معنى السينما ومعنى الشغف بالجميل كجوهر للفن. ولا أتمنى أن أشارك في تشييع جنازة السينما في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، لأن الوداع سيكون مؤلما ومثيرا للحزن، إذ إن رسالة الوداع، إن انتقلت من التأمل إلى التساؤل، ستلتهمها الحقيقة وتصدرها إلى الوعي التاريخي. إنه وعي الجيل الجديد الذي يطالب بدفن الماضي من أجل نهضة فنية وفكرية وسياسية، وسيشعر بأزمة الروح حين يشاهد مثل هذه الأفلام. فالسينما كتابة حديثة، حبرها الضوء وسلاحها الصورة الشعرية حين تتسلل إلى الروح وتتخذها مسكنا لها.
لقد شاهدت أفلاما مختلفة ومتعددة، لكنني لم أشاهد السينما، لأن الفيلم مطالب بأن يطرح سؤال ما السينما، بل وأن يكون مدهشا في لغته البصرية حين يحكي بصور غاية في الجمال تنقل إلينا حب السينما مثل حب الحياة، لأننا عندما نحب الحياة نذهب إلى السينما التي لا تتحقق إلا في المطلق باعتباره أصل العمل الفني. فإذا كان هناك قناع، فلا شيء وراءه، لأنه لا يخفي شيئا سوى ذاته. وفي سياق تأملاتنا لهذا المهرجان نتساءل: هل السينمائي يمارس عمله بهدف الحصول على الدعم من المركز السينمائي المغربي، أم أنه ثمل بالفن إلى درجة نسيان ذاته في الفيلم إلى أن توقظه السينما من سباته العقائدي؟
وبعبارة أخرى، هل ستظل الأفلام المغربية مجرد اجترار وتكرار لنفس المواضيع ونفس اللغة السينمائية الشاحبة؟ أم أنه قد حان الوقت لهدم هذه الأصنام وفسح المجال لسينما السينما، كما تبدو في بوادرها في بعض أفلام الشباب؟
تقول السينما على لسان زارادشت: «ما أحسست أبدا بالأمان الحلو أقرب إلي ولو بنظرة الشمس عندي، من يدفئني؟ من ذا الذي لا يزال يحبني؟ ممدد، مرتعش، أشبه بنصف ميت».


الكاتب : د. عزيز الحدادي

  

بتاريخ : 03/11/2025