من واقع الجوار إلى أفق الحوار
إيمان الرازي (*)
وجه جلالة الملك محمد السادس في خطابه الأخير إلى الشعب المغربي، غداة تبني مجلس الأمن للقرار الأممي بشأن الصحراء المغربية، رسالة تتجاوز حدود الانتصار الدبلوماسي الروتيني لتلامس جوهر العلاقات المغربية الجزائرية، في محاولة لإعادة الروح إلى أفق مغاربي طال انتظاره. فقد كان الخطاب الملكي بمثابة نداء للعقل والحكمة، يفتح آفاقا جديدة وممكنة نحو المستقبل، ويدعو إلى تجاوز سنوات الجفاء الطوال وسوء الفهم الكبير بين الشعبين الجارين، انطلاقا من قناعة راسخة بأن الجغرافيا والتاريخ أقوى من الخلافات الظرفية والآنية.
جلالة الملك، من خلال عباراته المسكوكة والمنتقاة، لم يتحدث من موقع المنتصر أو المتعالي، بل من موقع المسؤول المتسامي الذي يدرك أن استقرار المنطقة المغاربية لا يمكن أن يتحقق بدون مصالحة حقيقية بين المغرب والجزائر. لهذا، فإن الدعوة التي وجهها إلى فخامة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون كما دعاه، لم تكن في ظاهرها بادرة بروتوكولية فحسب، لكنها في العمق إعلان صريح وحسن نية صادقة في فتح صفحة جديدة مبنية على الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل. هذه الدعوة التي تجسد فلسفة سياسية عميقة مفادها أن أمن المغرب من أمن الجزائر، وأن ازدهار أحد البلدين لا يمكن أن يتم بمعزل عن الآخر.
الخطاب الملكي السامي أرسل إشارات واضحة أيضا بخصوص مرحلة ما بعد 31 أكتوبر 2025 والتي ستمثل منعطفا حاسما في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين. فبينما يرى البعض أن القرار الأممي انتصار للموقف المغربي، اختار جلالة الملك أن يتجاوزه إلى سياق أوسع: سياق بناء الثقة، واستثمار هذه اللحظة الأممية لبناء الجسور الممكنة بين الرباط والجزائر. لقد أراد جلالته أن يقول إن الوحدة الترابية لا تتعارض مع حسن الجوار، وإن الدفاع عن السيادة لا يعني القطيعة مع الجار، بل العكس تماما من ذلك، وهو السعي الحثيث لتأسيس لحوار نزيه تكون فيه الكرامة الوطنية قاعدة التفاهم لا عقبة أمامه.
ويبدو أن جوهر الخطاب تمحور حول فكرة جوهرية مفادها: أن الشعبين المغربي والجزائري تجمعهما ذاكرة مشتركة تتجاوز السياسة والحدود، من مقاومة الاستعمار إلى النضال من أجل التحرر وبناء الدولة، سارت التجربتان معا جنبا إلى جنب قبل أن تفرقهما الحسابات الفئوية الضيقة. واليوم، يأتي الخطاب الملكي ليذكرنا جميعا بأن المستقبل المغاربي الممكن لا يمكن أن يتحقق إلا عبر المصالحة الحقة، وأن بناء اتحاد مغاربي كبير يبدأ من رأب الصدع بين المغرب والجزائر أولا وأخيرا.
كما حمل الخطاب الملكي بعدا إنسانيا انسيابيا نبيلا بالغ الدلالة حين وجه الملك رسائل مضمرة إلى الشعوب قبل الأنظمة، في تعبير مفاده أن الحواجز السياسية لن تصمد طويلا أمام إرادة الشعوب التي لا تقهر إذا ما وجدت من يقودها نحو التعقل. لذلك، دعا بصريح عباراته المنتقاة بعناية الكبار إلى تجاوز الماضي دون إنكاره، وإلى تحويل الذاكرة المشتركة من مجال للخصومة إلى رافعة للتكامل بين الشعبين. بهذا المعنى، لم يكن الحديث عن الجزائر فقط كعنصر فاعل في معادلة دبلوماسية، لقد كان ذلك تعبيرا ملكيا صادقا عن رؤية متكاملة ترى في التعاون لا المواجهة طريقا سالكا نحو النماء والاستقرار. وفي السياق ذاته، يبرز الخطاب كوثيقة تؤسس لمنطق سياسي جديد في التعامل مع الجوار الشرقي، فبدل أن يكتفي المغرب بتثبيت مكتسباته في المنطقة وسيادته الكاملة عليها تحت يافطة الحكم الذاتي، لا ينسى أن يمد اليد نحو الجارة الجزائر لتكون جزءا من الحل لا امتدادا للأزمة. بهذا المنظور، يضع جلالة الملك حجر الأساس لمشروع مغاربي متوازن: مغرب قوي في وحدته، وجوار جزائري آمن في استقراره، وشعوب متطلعة إلى مستقبل مشترك تسوده التنمية بدل التنافر، والتكامل بدل التصعيد.
لقد بدا واضحا للعديد من المراقبين بأن الخطاب يتجاوز النبرة الدبلوماسية المعتادة إلى رؤية استراتيجية استشرافية بعيدة المدى، مفادها أن مغرب الغد لا يمكن أن يكتمل دون عودة الدفء إلى حاضنة العلاقات مع الجزائر. ومن ثم، فالدعوة إلى الحوار ليست تكتيكا سياسيا مباغتا، لكنها اليوم تفرض نفسها كخيار وجودي ممكن التحقق يرهن مصير المنطقة برمتها. فالمغرب اليوم، وهو يرسخ موقعه الدولي، ويجني ثمار الدعم المتزايد لطرحه العقلاني، يعي أن قوته لن تكتمل إلا في إطار مغاربي متماسك، وأن الجزائر، بحكم موقعها وثقلها، شريك مستقبلي في هذا البناء.
قدم هذا الخطاب الملكي التاريخي في النهاية، درسا بالغ الأهمية في الحكمة الملكية في السياسة الخارجية: كيف يمكن تحويل الانتصار إلى فرصة للحوار، وكيف تبنى الجسور حتى بعد سنوات من العزلة والجفاء؟ ما يترجم إيمان ملك بالمصالحة في الداخل قبل الخارج، وبأن الأوطان لا تسيجها الأسوار أو الحدود، لكن ببناء الممرات الآمنة والباعثة دوما على بث روح الأمل.
من هنا، أمكننا القول إن جلالة الملك، وهو يوجه دعوته إلى الجزائر، كان يخاطب ضمير الجزائر الجمعي قيادة وشعبا، داعيا بكل نبل وتسام معهود في جلالته، إلى أن يتحول الصمت المريب بين البلدين إلى حوار مسؤول، وأن تعود الروح إلى حلم الاتحاد المغاربي الكبير. واضعا أيضا من خلال الخطاب السامي نفسه، أسس مصالحة جديدة ممكنة التحقق بين بلدين يجمعهما أكثر مما يفرقهما، ليبدأ عهد جديد من الحوار والمصير المشترك، في أفق تستعاد فيه روابط الأخوة المغاربية على قاعدة الاحترام والوعي المشترك
بالتحديات التي تنتظرنا جميعا.
(*)أستاذة جامعية وفاعلة
سياسية ونقابية.
الكاتب : إيمان الرازي (*) - بتاريخ : 03/11/2025

