صدر حديثا عن «دار بصمة للنشر والتوزيع» عمل أدبي لافت يفتح أمام القارئ العربي نافذة على أحد أبرز الأصوات الشعرية في تاريخ الأدب الأمريكي الحديث، من خلال ترجمة الشاعر الزجال توفيق لبيض لقصائد مختارة من أشعار الشاعر الأمريكي لانغستون هيوز، تحت عنوان «حارس الحلم: قصائد مختارة». يمثل هذا الإصدار حدثا ثقافيا مميزا في المشهد الأدبي العربي، إذ يقدّم هيوز (1902–1967)، أحد أعمدة نهضة هارلم التي أرست أسس الأدب الزنجي الأمريكي في القرن العشرين، بترجمة تنبض بالحس الجمالي والوعي الإنساني.
الشاعر الأمريكي لانغستون هيوز، الذي جعل من الشعر منبرا للمهمشين والمضطهدين، ظل يؤمن بأن الحلم طاقة قادرة على مقاومة القهر، وأن الكلمة سلاح في وجه الظلم. ومن خلال هذه المختارات التي أبدع توفيق لبيض في نقلها إلى العربية، في طبعة أنيقة، يتجدد صوت هيوز في فضائنا الثقافي كرمزٍ للعدالة والمساواة والأمل، وكشاعر يكتب من أعماق التجربة الإنسانية المشتركة، وقد تمكن المترجم لبيض أن يحقق بعمله جسرا حقيقيا بين الشعر الأمريكي الزنجي والذائقة العربية، ليصبح العمل أكثر من مجرد ترجمة أدبية، بل جسرا ثقافيا وإنسانيا بين ضفتي العالمين.
جسر بين ثقافتين
يندرج هذا الإصدار ضمن سلسلة «جسور الشعر العالمي» التي أطلقتها « دار بصمة» في سعيها إلى توسيع آفاق الحوار الثقافي، وتعريف القارئ العربي بروائع الأدب الإنساني العالمي عبر ترجمات دقيقة ومراجعات أكاديمية موثوقة، وتبرز ترجمة توفيق لبيض لما تتميز به من توازن بين الأمانة الفنية والابتكار اللغوي، إذ استطاع أن يقترب من روح النص الأصلي دون أن يفقد نكهته الشعرية، فصاغ قصائد هيوز العربية بإيقاعٍ موسيقي شفاف يلامس الوجدان، حيث «أحسن لبيض استقبال النصوص داخل اللغة العربية»، على حد شهادة د. مراد الخطيبي.
يتضمن مفتاح هذا العمل مقدمة قيمة كتبها د. مراد الخطيبي، أستاذ بكلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بجامعة الحسن الأول – سطات، تحت عنوان «الترجمة باعتبارها مقاومة ضد النسيان»، رأى فيها أن الترجمة هي المسكن الثاني للنصوص، وأن المترجم مطالب بأن يهيئ لها شروط الضيافة المثالية داخل اللغة الهدف، بما يضمن استمرار الحياة في النصوص وانتقالها عبر الثقافات، فهي، في نظره، وسيلة لتجديد التواصل مع الأدب الإنساني، وفرصة لإعادة اكتشافه من خلال لغة أخرى، بما يسهم في لفت الانتباه إليه وتشجيع قراءته في فضاء جديد.
وفي هذا السياق، يؤكد الخطيبي أن المؤلف يمثل مساهمة جادة في التعريف بالشاعر الأمريكي لانغستون هيوز (James Mercer Langston Hughes)، من خلال ترجمة مختارات شعرية تنتصر لقيم العدالة والحرية والديمقراطية، وتقاوم أشكال التمييز والتهميش والاضطهاد، فقصائد هيوز، رغم بساطة لغتها الشكلية، تتسم بعمقٍ في الدلالة والمضمون، إذ تعبر عن روح إنسانية مشحونة بالأمل والإصرار على مقاومة الظلم، ويشدد الخطيبي على أن ترجمة الشعر من أعقد أشكال الترجمة الأدبية، غير أن المترجم توفيق لبيض نجح في نقل روح النصوص الأصلية بثيماتها وأفكارها وصورها الجمالية.
كما رأى الخطيبي أن المترجم أعاد تشكيل قصائد العمل بأسلوب شعري موازٍ يتميز بجمال اللغة ورهافة الإحساس، كما أبدع في اختيار المفردات وصياغة التراكيب التي تراعي خصوصيات العربية، وتمنح النصوص المترجمة إيقاعاً وموسيقى داخليين يجعلانها تنبض بالحياة وكأنها كُتبت بالعربية أصلاً، دون أن يفوت الخطيبي تقديم مثال على هذا التوهج الإبداعي من خلال مقطع جسد فيه لبيض ببراعة جوهر القصيدة الأصلية:
عض على أحلامك بالنواجذ،
فإن هي ماتت،
صارت الحياة طائرا مهيض الجناحين
لا يقوى على التحليق.
تشبث بأحلامك،
فإن رحلت،
غدت الحياة حقلا أجرد
يئن تحت قسوة الجليد.
ويختم د. مراد الخطيبي مقدمته بالتأكيد على أن المترجم وفّق في تسليط الضوء على شاعرٍ عالمي لم يُترجم إلى العربية بما يليق بمكانته، مبرزا من خلال هذا العمل ملامح شعره ومواقفه الفكرية والسياسية، ليغدو الكتاب جسرا حقيقيا بين الثقافتين العربية والأمريكية، ومن هنا، كما يقول الخطيبي، فإن الترجمة تصبح شكلا من أشكال المقاومة ضد النسيان، ومحاولةً لإحياء النصوص ومنحها حياة جديدة في ذاكرة اللغة، انسجاما مع رؤية الباحث عبد السلام بنعبد العالي حول وظيفة الترجمة كفعلٍ ثقافي يعيد بعث الكلمة من جديد.
زمن مثقل بالتمييز
وإلى جانب مقدمة د. مراد الخطيبي، اختار المترجم توفيق لبيض مدخلا تمهيديا ثريا وضع فيه القارئ في صلب التجربة الشعرية والإنسانية للشاعر الأمريكي جيمس ميرسر لانغستون هيوز (1902–1967)، المولود بمدينة جوبلين بولاية ميسوري الأمريكية، والذي نشأ في كنف أسرة متواضعة، وعاش طفولته متنقلا بين والديه المنفصلين وجدته التي غرست فيه الاعتزاز بجذوره الأفريقية، وورث عنها قصص الحرية والنضال ضد العبودية، وهي القصص التي ستشكل لاحقا روح شعره وموقفه من الحياة.
وكان الشاعر هيوز قد التحق بجامعة كولومبيا في نيويورك، لكنه سرعان ما تركها بعد أن اصطدم بجدار التمييز العنصري، لينتقل بعدها إلى جامعة لينكولن حيث نال شهادته الجامعية، غير أن التجربة الأعمق في مساره، يضيف المترجم توفيق لبيض، لم تكن أكاديمية، بل حياتية وفنية، عاشها في قلب حي هارلم بنيويورك، الذي كان آنذاك مركزا لنهضة فكرية وفنية عُرفت باسم نهضة هارلم، هناك تبلورت رؤيته الشعرية، وتفتحت موهبته ليصبح أحد أبرز الأصوات التي بلورت هوية الأدب الأفرو-أمريكي في القرن العشرين.
في ذات مدخل العمل، يقدم توفيق لبيض قراءة حية لمسيرة الشاعر لانغستون هيوز، فيصفه بأنه شاهد على زمنٍ يتصارع فيه الحلم مع القهر، والحرية مع التمييز، شاعر كتب للإنسان العادي بلغة بسيطة وموسيقى شفافة، تخاطب القلب بقدر ما توقظ الوعي، بل لم يكن هيوز شاعر النخبة، بل شاعر الشارع والوجدان الجمعي، حمل هم المهمشين والمضطهدين والبؤساء، وصوت الذين لا صوت لهم، فجاءت قصائده قصيرة في ظاهرها، عميقة في باطنها، ترفض الاستلاب وتنتصر للكرامة الإنسانية في كل تجلياتها.
ويؤكد لبيض بالتالي أن نقل شعر هيوز إلى العربية ليس مجرد ترجمة لغوية، بل استحضارا لروحٍ نضالية وإنسانية واسعة، ومحاولة لجعل القارئ العربي يلامس قضايا الحرية والعدالة كما عاشها الشاعر في زمنٍ مثقل بالتمييز والمعاناة، فكل قصيدة، في نظره، هي حكاية حلمٍ يصارع ليبقى حيا، وصرخة ضد النسيان والتهميش، ويضم الكتاب مختارات مترجمة لأكثر نصوص هيوز تأثيرا وانتشارا، نصوص خرجت من رحم التجربة الأفرو-أمريكية لتعبر عن الإنسان في كل مكان وزمان، في عطشه للحرية وإصراره على التشبث بالأمل، ومواجهة القهر بالعزم والكرامة.
نصوص للكرامة والأمل
يضم العمل الشعري المترجم عشرين قصيدة مختارة من إبداع الشاعر الأمريكي لانغستون هيوز، تمتد على نحو خمسين صفحة، وتشكل لوحة متكاملة لتجربته الشعرية والإنسانية التي امتدت على مدى عقود. وقد حرص المترجم على اختيار نصوص تعبر عن تنوع صوت هيوز، وعن تحولاته الفكرية والجمالية، لتقدم للقارئ العربي صورة بانورامية عن شاعرٍ جعل من الشعر مرآةً للكرامة والأمل، وتتوزع هذه المختارات بين قصائد تنتمي إلى البدايات التي أعلن فيها هيوز وعيه بالانتماء والحرية مثل «الزنجي يتحدث عن الأنهار» و»من أم إلى ابنها» و»هارلم (حلم مؤجل)».
باقي القصائد، منها التي تحلّق في فضاء الحلم والمقاومة مثل «أحلام»، «تموجات حُلم»، «الديمقراطية» و»الحياة بهية»، كما تضم المجموعة نصوصا تعبر عن الذات في مواجهة الإقصاء، وعن الإصرار على البقاء، مثل «أنا أيضا»، «حارس الحلم»، و»مازلت هنا»، إلى جانب قصائد تتأمل الزمن والذاكرة والأسى الإنساني مثل «البلوز المرهق»، «كلما تقدم بي العمر»، و»الأم الزنجية»، فيما تتفتح صور الحياة والطبيعة في «أنشودة مطر أبريل»، «صباح عاثر»، و»نداء»، قبل أن تختتم المختارات باختصار هيوز رؤيته للعالم والإنسان في قصيدتي «أنا ضيف العشاء» و»عدو».

