الشبيبة الاتحادية في زمن التحول: بين ذاكرة خمسين عاما ورهانات جيل جديد
عبد السلام الموساوي
n
ليس شهر نونبر شهرا عاديا في الوعي المغربي؛ فهو شهر يلخص روح الأمة وذاكرة التحرير والوحدة. فيه خُطّت ملحمة المسيرة الخضراء، وفيه استعاد المغاربة ثقتهم بأنفسهم كقوة قادرة على تغيير مجرى التاريخ. إن الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس الشبيبة الاتحادية في نونبر يعني تلاقي الذاكرتين: ذاكرة الوطن وذاكرة التنظيم، وتحويل الاحتفال إلى وقفة نقدية أمام نصف قرن من النضال الشبابي الذي حمل، في كثير من اللحظات، معنى المقاومة المدنية في وجه الظلم والاستبداد.
وسط مغربٍ يعيش تحولات متسارعة، ويتجاوز في إيقاعه مؤسساته وأحزابه، لم يعد السؤال: ماذا حققنا؟ بل: ماذا نحن مطالبون بتحقيقه؟ وكيف يمكن للحركة الشبابية الاتحادية أن تظل وفيةً لإرثٍ وُلد في زمن السرية والملاحقات، وتُعيد في الوقت نفسه بناء خطابها وأدواتها داخل عصرٍ رقمي، سريع، مفتوح، ومليء بالتناقضات؟
إن خطاب الكاتب الأول إدريس لشكر في هذه المناسبة لم يكن مجرد كلمة رسمية، بل كان محاولة لإعادة تشكيل بوصلة الحركة، إذ وضع الشبيبة الاتحادية أمام سؤال مركزي: كيف ننتقل من الذاكرة إلى الفعل، ومن الوفاء إلى الإبداع، ومن الهياكل التقليدية إلى الأفق الواسع الذي تفرضه مرحلة جديدة؟
لقد أعلن إدريس لشكر، بوضوح لا يحتمل التأويل، أن الزمن تغيّر، وأن البُنى العمودية التي اشتغلت لعقود فقدت قدرتها على ملامسة إيقاع المجتمع. هذا الاعتراف لا يهدف إلى نسف الإرث، بل إلى فهم السياق الذي نشأت فيه تلك الهياكل. فقد وُلدت الشبيبة الاتحادية في سنوات المنع والمطاردة والرقابة، حيث كانت التنظيمات الحزبية تعمل في ظروف تُشبه المقاومة السرية، وكانت المكاتب الجهوية والإقليمية ملاذاً للحماية والتنسيق.
لكن اليوم، في مغرب جديد أكثر انفتاحاً، وأكثر تعقيداً أيضاً، لم تعد تلك الهندسة التنظيمية قادرةً على احتضان طاقة الشباب. لم يعد الانضباط هو المشكلة، بل غياب الفضاءات التي تستوعب الإبداع. لذلك دعا لشكر إلى «صيغة أفقية» تنصت للواقع وتتحرك معه، وتجعل من الشبيبة شبكةً مفتوحة، لا جهازاً مغلقاً.
فعندما قال إدريس لشكر: «فكرة تُنشر في الثالثة صباحاً قد تُصبح رأياً عاماً عند السابعة»، لم يكن يصف ظاهرة، بل يعلن قانون المرحلة.
السياسة اليوم ليست ما يُتلى في المقرات، بل ما يُنتج ويُناقَش ويتفاعل معه في الفضاء الرقمي.
هنا يبدأ التحدي الحقيقي للشبيبة الاتحادية: كيف تتحول من متلقٍ سلبي إلى فاعل رقمي مؤثر؟
كيف تنتج خطاباً يواجه الفوضى الرقمية، ويحارب التضليل، ويُعيد الاعتبار للنقاش الرصين؟
فالرقمنة ليست تقنية فحسب، بل ثقافة جديدة في التفكير والمشاركة والتأثير.
يحمل شهر نونبر معنى التحرّر الوطني، لكن الشبيبة الاتحادية مدعوة اليوم لحمل راية التحرّر المدني.
فالتحولات الديمقراطية في المغرب لا يمكن فصلها عن الحريات الفردية والجماعية، التي تُعدّ شرطاً للحياة الكريمة والمشاركة الواعية.
وقد قال لشكر بجرأة سياسية لافتة إن «لغة المنع لا تصنع جيلاً، بل تُنتج الخوف والتردد».
إن مشروع التحرّر الذي بدأته المسيرة الخضراء على مستوى الأرض، يجب أن يستكمله الجيل الجديد على مستوى الحقوق.
وهنا يلتقي التاريخ مع المستقبل: فجیل سنوات الرصاص قاتل من أجل أن نمتلك حرية الكلام والفكر والتعبير، وجيل اليوم مُطالب بأن يحمي تلك الحرية ويوسّعها.
سؤال لشكر: «أين يوجد الشباب؟» لم يكن سؤالاً خطابياً، بل تشخيصاً عميقاً.
فالشباب اليوم موجودون في الجامعات، وفي مهن المستقبل، وفي المنصات الرقمية، وفي المبادرات التطوعية، وفي الفنون، وفي ريادة الأعمال، وفي المحتوى الإبداعي. وحتى أولئك الذين يعانون هشاشة اجتماعية أو بطالة، يعيشون تجارب مختلفة تماماً عن تلك التي عرفتها الأجيال السابقة.
الشبيبة الاتحادية مطالبة بأن تغادر المقرات نحو الحياة العامة، وأن تنصت للشباب في أماكنهم الطبيعية، وأن تخاطبهم بلغتهم، وأن تشركهم في مشاريع فعلية، لا في خطابات فضفاضة.
حين استحضر إدريس لشكر سنوات الرصاص، لم يستحضرها برومانسية سياسية، بل بوصفها ذاكرة مقاومة: ذاكرة الاعتقال، والنفي، والمنع، والعمل السري، والشهداء، والطلبة الذين واجهوا الرصاص من أجل حرية الوطن.
هذه الذاكرة ليست للتفاخر، بل للتذكير بأن الشبيبة الاتحادية لم تُولد في الرفاه التنظيمي، بل في معركة من أجل الديمقراطية.
وقد لخّص لشكر هذه الحقيقة بعبارة مكثفة قال فيها:
«شباب اليوم ليسوا فقط ورثة تاريخ… إنهم مُدينون لتضحيات جسيمة صنعت لهم الحق في الاختلاف». وهذه الدينامية الأخلاقية تُحوّل الذاكرة إلى واجب، لا إلى مجرد ذكرى.
بعد خمسين عاماً من العمل، تصبح الشبيبة الاتحادية مدعوة إلى الانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة البناء.
لم تعد مقرات الحزب فضاءً للمحاضرات التقليدية، بل يجب أن تصبح مختبرات للأفكار، ومساحات للإبداع الرقمي، ومنصات للمبادرات الاجتماعية والثقافية.
فكما تطورت المجتمعات، يجب أن يتطور التنظيم نفسه.
والأهم أن الشبيبة الاتحادية يجب أن تتخلص من الخطاب الجاهز الذي لا يخاطب أحداً، لتعود إلى جوهرها الحقيقي: جرأة السؤال، قوة النقد، وابتكار الحلول.
يتكرر في خطاب لشكر مفهوم محوري:
«الشباب ليسوا مستقبل الحزب… بل شرط وجوده».
هذه الفكرة تُلخّص جوهر المرحلة.
المطلوب من الجيل الجديد ليس إعادة إنتاج الماضي، بل مساءلته وإعادة تأويله بما يناسب زمنه.
جيل اليوم مطالب بأن يجمع بين إرث عبد الرحيم بوعبيد، وشجاعة جيل المنع، وذكاء العصر الرقمي.
ستبقى الشبيبة الاتحادية تنظيماً تقليدياً ما دامت تدور حول ذاتها.
فالمستقبل ينتمي للتنظيمات التي تتحول إلى شبكات فكرية، وإلى حركات اقتراحية، وإلى واجهات اجتماعية تُلامس حياة الناس.
إن تحول الشبيبة الاتحادية إلى تنظيم أفقي ليس خياراً، بل ضرورة سياسية لبقائها قوة إصلاحية حقيقية.
إن نجاح الشبيبة الاتحادية في هذه المهمة سيغير مستقبل الحزب، وربما مستقبل السياسة في المغرب.
لأن إعادة ابتكار الشبيبة… هي في الحقيقة إعادة ابتكار الوطن.
الكاتب : عبد السلام الموساوي - بتاريخ : 17/11/2025