الصفقات التفاوضية وتضارب المصالح يثيران جدلا واسعا حول شفافية المال العام بوزارة الصحة

تعيد الى الأدهان استفادة 80 شركة من 247 صفقة تفاوضية ب200مليار زمن أيام كوفيد

 

 

يكشف الجدل الذي أثارته صفقة استيراد مادة كلوريد البوتاسيوم حجم الهشاشة التي ما زالت تلازم تدبير الصفقات العمومية داخل القطاعات الاجتماعية الحساسة، بعدما تفجرت داخل البرلمان معطيات حول استفادة شركة مملوكة لعضو في الحكومة من ترخيص يتعلق بقطاع الصحة. فوفق مصادر متطابقة، حصلت شركة تابعة لوزير التربية الوطنية على ترخيص استيراد هذه المادة الحيوية، ما أعاد طرح سؤال تضارب المصالح داخل الجهاز التنفيذي، خاصة في ظل غياب توضيحات رسمية دقيقة حول هوية الشركات المستفيدة وشروط انتقائها. ورد وزارة الصحة بأن العملية تمت وفق مساطر قانونية وشفافة لم يعالج النقطة المركزية المتعلقة بهوية الشركات، وهو ما عمق شعوراً عاماً بوجود تجنب متعمد لذكر الأطراف المعنية، رغم حساسية الموضوع وارتباطه بمواد طبية سبق أن سحبت من المستشفيات بسبب اختلالات في الجودة أو التعليب.
وتزامن هذا الجدل مع قرار رئيس الحكومة تمكين وزارة الصحة من اعتماد المسطرة التفاوضية في صفقات تهم 91 مؤسسة صحية، في ظرفية تعرف ضغطاً متزايداً على المستشفيات. فبينما يرى اتجاه أن اللجوء إلى هذا الإجراء يمثل استجابة لواقع الاستعجال ونقص التجهيزات الحيوية، يرى اتجاه آخر أن توسيع الاستثناء بهذا الحجم قد يحد من مبدأ المنافسة، ويطرح أسئلة جوهرية حول الشفافية في تدبير المال العام. وتعيد هذه التخوفات إلى الأذهان ما جرى خلال جائحة كوفيد 19، حين تفجرت واحدة من أكبر قضايا الصفقات الصحية بعد تقديم المنظمة المغربية لحماية المال العام شكاية إلى رئيس النيابة العامة تتهم مسؤولين كباراً في الوزارة باختلاس وتبديد أموال عمومية والتزوير والغدر وغسيل أموال. وأفادت المعطيات حينها بأن الفرقة الوطنية استمعت لرئيس المنظمة، محمد سقراط، بخصوص اتهامات طالت مسؤولي مديرية الأدوية والصيدلة ورؤساء أقسام وتقنيين وممثلي شركات نالت صفقات خلال تلك المرحلة حيث تبين حينها أن أكثر من 80 شركة استفادت من 247 صفقة تفاوضية بلغت قيمتها حوالي 200 مليار سنتيم، بناء على تقارير المفتشية العامة لوزارة المالية ولجنة برلمانية والمجلس الأعلى للحسابات، التي رصدت خروقات مالية وإدارية وقانونية، ضمنها منح صفقات لشركات لا علاقة لها بالمستلزمات الطبية الضرورية في زمن الطوارئ الصحية. وأكدت المنظمة أن الهدف من تقديم الشكاية هو ربط المسؤولية بالمحاسبة والحد من مظاهر الفساد داخل المؤسسات العمومية.
وفي الوقت الذي يدافع فيه البعض عن التوجه الحكومي باعتباره وسيلة لتجاوز بطء المساطر الإدارية في لحظة تتطلب تسريع تأهيل البنيات الاستشفائية، تشدد الأصوات المنتقدة على أن فتح الباب أمام الصفقات التفاوضية من دون ضمانات مؤسساتية قوية قد يحول الاستثناء إلى قاعدة، ويخلق ثغرات واسعة يمكن أن تمر منها ممارسات الريع ومنح امتيازات غير معلنة لفائدة شركات بعينها. كما أن حساسية القطاع الصحي تفرض أعلى درجات الشفافية، بالنظر إلى ارتباطه المباشر بسلامة المواطنين، خصوصاً بعد تجارب سابقة أظهرت أن غموض المساطر يؤدي في أحيان كثيرة إلى تكاليف مرتفعة وجودة مشكوك فيها. ويدفع اتساع عدد المؤسسات المعنية بالقرار، والذي يتجاوز 90 مؤسسة، إلى المطالبة بآليات رقابة دقيقة تضمن نشر تفاصيل التعاقدات، بما في ذلك أسماء الشركات ومعايير الاختيار وطبيعة التجهيزات والخدمات موضوع الصفقات.
ويأتي هذا النقاش في لحظة تعرف فيها ميزانيات التعليم والصحة قفزة استثنائية في مشروع مالية 2026، بزيادة تناهز 22 مليار درهم مقارنة بسنة 2025، وتخصيص أكثر من 9100 منصب مالي موزعة بين القطاعين. ورغم أهمية هذا الارتفاع، إلا أنه أعاد طرح السؤال حول قدرة الحكومة على تحويل هذه الأرصدة إلى أثر ملموس، في وقت تجاوزت فيه ميزانية التعليم 80 مليار درهم سنة 2025 دون أن ينعكس ذلك على جودة التعليم أو معالجة اختلالات البنيات. كما ما زالت المنظومة الصحية تعاني خصاصا حادا في الموارد البشرية وبنيات الاستقبال، إضافة إلى فوارق جهوية واسعة، رغم الرفع من الاعتمادات والبرامج المرتبطة بالحماية الاجتماعية.
وتبرز هذه المعطيات أن التحدي الحقيقي لا يكمن في حجم التمويل، بل في حكامة تدبيره، وفي تطوير منظومة صفقات عمومية تقوم على المنافسة والشفافية، وتحد من اللجوء إلى الاستثناء إلا عند الضرورة القصوى. فبناء دولة اجتماعية قوية يستلزم تخليق تدبير المال العام وربط الإنفاق بالنتائج وتعزيز الثقة في أن كل درهم عمومي يصرف وفق أولويات واضحة ومساطر قابلة للمراقبة.


الكاتب : عماد عادل

  

بتاريخ : 18/11/2025