في مداخلة له خلال الدرس الافتتاحي للجامعة الشعبية بمكناس، شدد وسيط المملكة، حسن طارق، على القيمة الرمزية والمجتمعية لهذه المبادرة التي اعتبرها عملا تطوعيا ومبادرة مواطنة راقية، يقودها الائتلاف المدني منذ عشر سنوات، في ظروف غير يسيرة، مما يجعل استمرارها مدعاة للتنويه والتقدير.
واستهل وسيط المملكة كلمته بالتعبير عن اعتزازه بحضوره في شهر وصفه بـشهر الأعياد المجيدة، مستحضراً دلالات عيد العودة، وعيد الانبعاث، وعيد الاستقلال، ثم الأعياد الوطنية الثلاثة : عيد الوحدة، عيد المسيرة، وعيد الاستقلال. وأشار إلى أن هذه اللحظة الوطنية تأتي متزامنة مع موجة ارتياح واسعة وروح وطنية متجددة، عقب صدور القرار الأخير لمجلس الأمن بشأن قضية الصحراء المغربية، وهو القرار الذي اعتبره لحظة تاريخية تطابقت فيها الشرعية الوطنية والتاريخية مع الشرعية الدولية، لأول مرة منذ نصف قرن.
وتناول طارق موضوع الدرس الافتتاحي: « الوساطة كآلية لحماية الحقوق وتعزيز الحكامة «، موضحاً أن الحديث عن الوساطة يقود مباشرة إلى مؤسسة الوسيط، التي ورثت تقليداً مغربياً عريقاً في تدبير التظلمات وطلب الإنصاف، يمتد عبر قرون من تاريخ الدولة المغربية. وذكّر بأن أولى اللبنات الحديثة لهذا المسار وضعت سنة 1956، حين أُحدث بظهير مكتب مختص بتدبير التظلمات بالديوان الملكي في عهد الملك محمد الخامس.
وانتقل المتحدث إلى محطة 2001 التي شهدت تأسيس مؤسسة ديوان المظالم بقرار من الملك محمد السادس، في رسالة تزامنت مع ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأرست ازدواجية في آليات حماية الحقوق بين القضاء الإداري والصيغة التوافقية التي تمثلها الوساطة. وبعد عقد من الزمن، وفي سياق إصلاحات دستورية ومؤسساتية عميقة، تم إحداث مؤسسة الوسيط، قبل أن يمنحها دستور 2011 مكانة متقدمة ضمن هيئات الحكامة المنصوص عليها في الباب الثاني عشر.
وأوضح وسيط المملكة أن هذه المؤسسة تُسند إليها مهمتان دستوريتان مركزيتان: الدفاع عن الحقوق، وتعزيز الحكامة.
ففي جانب حماية الحقوق، تشتغل المؤسسة على التظلمات المرتبطة بعلاقة المرتفق بالإدارة، وتملك آليات متعددة من بينها التحري المباشر، وفتح النقاش مع الإدارات، وتفعيل لجان التنسيق، إضافة إلى المخاطب الدائم داخل الوزارات. كما أشار إلى إمكانية المبادرة التلقائية التي تخول للوسيط التدخل حتى دون توصل المؤسسة بشكاية رسمية.
وتميز مؤسسة الوسيط – حسب طارق- بإعمال نهج الإنصاف إلى جانب الشرعية القانونية، مستشهداً بابن رشد: « إذا كانت العدالة أتم الفضائل فإن الإنصاف أتم منها «. هذا المبدأ يسمح للمؤسسة بتصحيح آثار تطبيق قواعد قانونية قد تكون صارمة أو غير منصفة في بعض الحالات.
وكشف المتحدث أن 90 في المائة من التظلمات التي ترِد على المؤسسة منذ سنوات تتوزع بين ثلاثة ملفات كبرى: التظلمات الإدارية، المالية، والعقارية. وبين أن التقرير السنوي الذي يرفع إلى جلالة الملك يشكل وثيقة مرجعية تتضمن تشخيص الاختلالات التي رصدتها المؤسسة خلال السنة، واقتراحات عملية لتحسين أداء الإدارة وجودة الخدمات.
أما في الشق المتعلق بالحكامة، فذكر وسيط المملكة بأن الدستور جعل الحكامة اختيارا لا رجعة فيه ، وأن ميثاق المرافق العمومية الصادر سنة 2019 أرسي عشرة مبادئ موجّهة تشمل: احترام القانون، المساواة، الإنصاف، الاستمرارية، الجودة، الشفافية، المسؤولية، النزاهة، والانفتاح. وتعمل مؤسسة الوسيط – وفق المتحدث – على تقييم مدى احترام الإدارات لهذه المبادئ، وتقديم ملاحظاتها واقتراحاتها لتحسين أداء المرفق العمومي.
كما أبرز حسن طارق أن المؤسسة تضطلع بدور قوة اقتراحية، سواء عبر تدخلاتها لدى رئيس الحكومة بموجب المادة 42 من قانونها التنظيمي، أو من خلال إبداء الرأي في مشاريع القوانين والمراسيم، أو عبر اللقاءات التفاعلية التي تنظمها في مختلف جهات المملكة.
وفي معرض حديثه عن علاقة المواطن بالإدارة، اعتبر وسيط المملكة أن التعقيد المتزايد للانتظارات الاجتماعية جعل هذه العلاقة أكثر توترا مما كانت عليه سابقا، حيث لم تعد الإشكالات مقتصرة على الزمن الإداري أو تبسيط المساطر، بل أصبحت مرتبطة بضغط الاحتياجات الاجتماعية. وهذا ما ظهر جليا – حسب قوله – في تتبع المؤسسة لعدد من الاحتجاجات القطاعية، مثل ملف طلبة الطب والصيدلة.
وأكد أن مواجهة هذه التوترات تتطلب منظومة متعددة للوساطة، لا تنحصر في المؤسسات الدستورية، بل تشمل أيضاً النسيج المدني والوسطاء المحليين، تعبيراً عن الحاجة المتزايدة إلى آليات القرب والإنصات. وفي هذا السياق، نظمت المؤسسة سلسلة منتديات جهوية حول «الحكامة الارتفاقية» شملت فاس، طنجة، العيون، وغيرها، إضافة إلى سبع جلسات استماع محلية شملت مختلف المتدخلين في السياسات العمومية.
واختتم وسيط المملكة مداخلته بالتأكيد على أن هدف المؤسسة اليوم هو تحسين جودة العلاقة بين المواطن والإدارة، وإثراء فضاءات الحوار، بالانفتاح على كل المبادرات التي تعزز الحكامة الإدارية وتقوي جسور الثقة مع المواطنين، . وتعزيز حضور ثقافة الوساطة كخيار مؤسساتي وأداة مواطنة لحماية الحقوق وترسيخ الحكامة الجيدة باعتبار الوساطة اليوم جزء أساسي من استقرار المجتمع وتماسكه.
في مداخلة له خلال الدرس الافتتاحي للجامعة الشعبية بمكناس .. وسيط المملكة: الإنصاف أعلى من القانون حين يُظلم المواطن
الكاتب : يوسف بلحوجي
بتاريخ : 21/11/2025