يعود الروائي الجزائري الفرنكوفوني بوعلام صنصال إلى الواجهة بعد خروجه من السجن، حيث أمضى عاماً كاملاً خلف القضبان في الجزائر إثر تصريح أثار غضب السلطات هناك، وجرى على إثره اعتقاله في نوفمبر 2024. صنصال، الذي عرف بجرأته وانتقاداته الحادة للنظام الجزائري، وجد نفسه في قلب أزمة سياسية معقدة امتزج فيها الأدب بالدبلوماسية، قبل أن تفضي الوساطة الألمانية إلى حصوله على عفو وإطلاق سراحه قبل عشرة أيام.
في هذا الحوار التلفزيوني، يتحدث الكاتب لأول مرة بعد الإفراج عنه، مستعيدا تفاصيل الاعتقال والسجن والمرض.. ومنتقيا كلماته بعناية (كما أشار لذلك) في لحظة لا تزال مشدودة بين ثلاث عواصم: باريس والجزائر وبرلين.
p بوعلام صنصال، أنت حر منذ عشرة أيام بعد عام من السجن. كيف تصف لنا «طعم» هذه الحرية؟
n الأمر معقد. بعد شهور طويلة، يعود المرء للحياة، للروائح وللهمسات، ولأشياء لا نفهمها جيدا في البداية. لهذا، أحتاج لبضعة أيام لإعادة ترتيب أفكاري وردود أفعالي. هناك أشياء تثير جنوني، مثل رائحة القهوة؛ لقد حلمت بها كثيرا. فبعد فترة طويلة من السجن، يفقد المرء مفرداته، وأنا الآن أبحث عن كلماتي بصعوبة، لكنني سأجدها.
p كان وضعك الصحي مصدرا لقلق كبير.. كيف حالك اليوم؟
n أنا بخير حاليا. تم تشخيص إصابتي بسرطان البروستاتا، وقد عولجت في الجزائر بشكل رائع من قبل أطباء جادين تعاملوا معي بصداقة واحترافية. لكن عند وصولي إلى المستشفى العسكري في برلين، تم اكتشاف مشاكل أخرى؛ لدي نقص في كريات الدم الحمراء (أنيميا) وتقرحات في المعدة. سنقوم بفحص هذه الأمور في باريس لمعرفة أسبابها العميقة.
p لنعد إلى الوراء، وتحديدا يوم 16 نونبر 2024. كيف تم اعتقالك في مطار الجزائر؟
n: كانت لحظة صدمة وذهول تامتين. فحين وصولي إلى شباك المطار، سألني الشرطي عن اسم والدي واسم والدتي، ثم طلب مني الجلوس والانتظار.
بعد ساعة من الانتظار، جاء ضابط واقتادني إلى عمق المطار. عند الساعة الثانية صباحا، جاء أشخاص بملابس مدنية، وضعوا الأصفاد في يدي وكيسا (قناعا) على رأسي. ولمدة ستة أيام، لم أكن أعرف أين أنا ولا مع من أتعامل، كنت أكرر سؤالي: «من أنتم؟»، لكن الإجابة كانت دائماً: «نحن الجهاز.. نحن الخدمة».
p كيف كانت ظروف السجن طوال هذا العام؟ وهل تمكنت من الكتابة والقراءة؟
n ظروف السجن قاسية وتستنزف الإنسان بسرعة؛ تشعر وكأنك تموت ببطء، تفقد كتلتك العضلية ونصف مفرداتك.
لم يكن هناك أي تواصل مع العالم الخارجي، حتى المحامي لم يكن موجودا. الحراس كانوا متقنين لعملهم غير أنهم كانوا لا يبدون سمات التواصل الإنساني، فقط يفتحون الباب ويغلقونه. العلاقة مع السجناء كانت أكثر إنسانية، فقد كنا نتشارك نفس اليأس، حتى وإن كان بعضهم قتلة أو مهربين.
أما عن القراءة، فقد سمح لي بعد أشهر بزيارة المكتبة، لكنني لم أجد سوى كتب دينية أو أخرى ممزقة وقديمة، لكنني قرأتها. وبالنسبة للكتابة، كان ذلك مستحيلا، لم أستطع نفسيا أن أكتب يومياتي، لكنني كنت أفكر في الكتاب الذي سأؤلفه لاحقا عن هذه التجربة.
p في نظرك، ما هي الأسباب الحقيقية وراء اعتقالك؟
n إن النتيجة لخليط من عدة أمور. هناك السياق الدبلوماسي المتوتر جدا بين فرنسا والجزائر، خاصة بعد اعتراف الرئيس ماكرون بمغربية الصحراء، وهو ما اعتبرته الجزائر «إعلان حرب». وهناك أيضاً كتاباتي وتصريحاتي، وزيارتي السابقة لإسرائيل التي يعتبرونها جريمة لا تغتفر، بالإضافة إلى انتقادي للنظام الديكتاتوري (وليس للجزائر كوطن). في التحقيقات، كانوا يسألونني عن «الخطوط الحمراء»، وكنت أجيبهم بأن الخطوط الحمراء الوحيدة التي أعرفها هي تلك التي يحددها الدستور، والدستور يكفل حرية التعبير.
p: كيف تم الإفراج عنك؟ ولماذا تم نقلك إلى ألمانيا وليس فرنسا؟
n علمت لاحقا أن هناك مفاوضات سرية. قبل يومين من الإفراج، نقلوني من سجني إلى سجن آخر سيء جدا، ثم إلى المستشفى، ثم وجدت نفسي في سيارة متجهة للمطار. كنت أظن أنهم سيفعلون بي ما هو أسوأ، لكنني فوجئت بطائرة تابعة للرئاسة الألمانية. أعتقد أن الاتفاق كان يقضي بتسليمي لألمانيا لأن تسليمي لفرنسا كان سيفسر على أنه إهانة للجزائر.
p: هناك جدل في فرنسا حول مواقفك السياسية، والبعض يربطك باليمين المتطرف. ما ردك؟ وأين تقف في مسألة العلاقات الفرنسية – الجزائرية؟
n: أنا لا أفهم هذا التصنيف. أنا رجل حر، لدي أصدقاء من كل التيارات السياسية، ولا أختار أصدقائي بناء على انتمائهم الحزبي، كما أنني لست منخرطا في أي حزب ولا أطمح لأي منصب.
أنا أتحدث مع الجميع، حتى الإسلاميين ذهبت إليهم وحاورتهم. أما عن العلاقات بين البلدين، فأنا متفائل بطبعي وأرى أن المستقبل يُبنى ولا يأتي صدفة. أريد أن تكون فرنسا والجزائر صديقتين عظيمتين بحكم التاريخ المشترك الطويل، رغم كل جراح الماضي.
p في الأخير، هل ستعود للكتابة قريبا؟
n بالتأكيد، لا يمكنني العيش بدون كتابة. إنها طريقتي في الحياة، أن أبحث عن الكلمات وأبني القصص. سأكتب عما حدث، والكتاب ينضج بداخلي بالفعل.

