««لعبة الكراسي» هي الرواية الثامنة عشرة للروائي والأكاديمي المغربي أحمد المديني الصادرة عن المركز الثقافي للكتاب في الدار البيضاء. و»هي آخر تجربة له في هذا الفن»، حسب إشارته في ديباجة الرواية. وهو فيها يبلغ الذروة في التجريب الذي توخّاه في روايات سابقة؛ فيتحلّل من المواضعات الروائية واللغوية، ويُمارس حرّية مطلقة في الكتابة، يتخطّى معها مفهومه للرواية، بما هي «فن اللعب بامتياز»، إلى نوع من العبث. ولعلّ هذا ما جعله يصفها في العنوان الفرعي بالرواية المجنونة. هذا في الشكل. أمّا في المضمون فالمديني في «لعبة الكراسي» لا يخرج عمّا انتهجه في روايات سابقة من تعرية الواقع غير أنّه يبلغ الذروة، في هذا النهج، في روايته الأخيرة، فيُقرّر أن يسردها « شارحة فاضحة بعد أن طفح الكيل»، على حدّ تعبيره، ويُحوّل «أبطال الزمن الحالي» من الكذبة والوصوليين وأسافل الأسياد إلى فرجة نادرة.
في الشكل، يسعى المديني في «لعبة الكراسي» إلى تحقيق الغاية التي يتوخّى من كتابة الرواية، وهي اللعب والتمتّع به وإمتاع الآخرين. وهذه الغاية المركّبة يعبّر عنها بوضوح في الرواية، ليس باعتباره الروائي بل باعتباره شخصية رواية فيها، بقوله: «وأنا شاغلي منذ وجدت مختلف وفي هذه القصّة بالذات أكتبها لألعب وأتمتّع بلعبي لا قيمة لكتابة لا تلعب فيها وتتمتّع باللعب وإذا نجحت في أن يتمتّع آخرون فذاك هو الفوز العظيم» (ص 171). ولعلّ ورود مشتقات الجذر «لعب» في جميع عناوين الوحدات السردية البالغ عددها ثماني عشرة وحدة يندرج في هذا الإطار. وهو في سبيل تحقيق هذه الغاية يلجأ إلى التجريب، سواء على مستوى اللغة أو النوع، ممّا ستتم الإشارة إليه أدناه.
يتمظهر التجريب في اللغة في إطاحته بعلامات الترقيم، فلا نقع على أيٍّ منها في النص الروائي، والإطاحة بتقسيم النص إلى فقرات متعاقبة، فالنص عبارة عن فقرة واحدة طويلة تمتدّ على مساحة الوحدة السردية. بل هو يذهب أبعد من ذلك حين يرى أنّ الرواية هي «من جملة واحدة، أو في جملة واحدة متصلة» (ص 9). وبذلك، يطيح بالمعنى الاصطلاحي للجملة في اللغة العربية. وفي السياق نفسه، تتعدّد المستويات واللغات والأنماط في لغته الروائية، فيتجاور في النص الطويل: اللغة الفصحى، والمحكية المغربية، وعبارات فرنسية، وآيات قرآنية، وكلمات من أغنية شعبية، ومقاطع من خطبة، ودعاء في موكب تشييع، ونص في مديح الحاكم، وغيرها، ما يجعلنا إزاء خلطة لغوية مشوبة بتوابل مختلفة. أمّا في النوع الروائي فيتمظهر التجريب في: تعدّد الأسلاك السردية، ضمن الصفحة الواحدة. تعدّد الأصوات المتحاورة. الانتقال من سلك إلى آخر أو من صوت إلى آخر، دون سابق إنذار، ودون وجود علامات إخراجية فاصلة. التداخل في تمثيلات الرواية وفصولها. استقامة المسارات وتعرّجها. توزيع جزئيات الواقعة الواحدة على عدة فصول، وغيرها. وغني عن التعبير أنّ مثل هذه التمظهرات تُحوّل عملية القراءة إلى نوع من الحراثة في أرضٍ بور، تقتضي الفصل بين المتجاورات، وجمع المتناثرات، والمقارنة بين المتشابهات، والتمييز بين المختلفات، ما يستدعي رفع مستوى التركيز، لدى القارئ، إلى حدوده القصوى، ويجعل القراءة نوعًا من التمرين الفكري، وليس مجرّد سياحة نصّيّة.
في المضمون، يعالج المديني في «لعبة الكراسي» مسألة السلطة، وآليات الوصول إليها، والموبقات الناجمة عن سوء ممارستها، في العالم المرجعي للرواية؛ فلعبة الكراسي تغري الجميع للانخراط فيها، لا سيّما من الرجال الذين يحلمون بها، ليل نهار، ويتوخّون الأساليب، المشروعة وغير المشروعة، لبلوغها والتنعّم بامتيازاتها. لكن كثيرًا ما يكون دون تحقيق هذه الأحلام كوابيس كثيرة، فيدفعون الأثمان الباهظة في صراعات غير متكافئة الأطراف. وهو يفعل ذلك من خلال شخوص الرواية، المتعالقين في ما بينهم، الذين يتوزّعون على مجموعة من الأزواج الذين ينخرطون في الأحداث، سواء من موقع الفاعل فيها أو المنفعل بها أو الشاهد عليها. وفي هذا السياق، نقع على الأزواج التالية: الفراش علال بو شارب وزوجته الموظفة زهرة. الأستاذ الجامعي المصلوحي وزوجته قوت القلوب. مدير الثانوية المتقاعد وزوجته. مدرّس الرياضيات ياسين بو زيان وزوجته ثريا. والمعتقل السابق عماد الهاشمي وزوجته. ناهيك عن شخوص أخرى منفردة لها دورها في مجرى الأحداث. على أنّ لكل من هذه الأزواج سلكها السردي الذي يطول أو يقصر تبعًا لإرادة الروائي. مع الإشارة إلى أنّ السلك الأطول بينها هو سلك الفرّاش علال بو شارب المتحدّر من أصول ريفية، وزوجته الموظّفة زهرة المتحدّرة من أصول مدينية، وذات العلاقات النافذة مع بعض أصحاب القرار. لذلك، يمكن اعتبار طرفي هذا الزوج بطلي الرواية بدون منازع، ويستدعي تمييزهما عن سائر الأزواج بالتفكيك والتركيب ليبنى على الشيء مقتضاه.
على أنّه قبل الخوض في هذا الغمر، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المديني، تنفيذًا لقراره سرد الأحداث «شارحة فاضحة بعد أن طفح الكيل»، على حدّ تعبيره، يقوم بتعرية السلطة، وآليات تسلّقها، وما يحفّ بها من أعطاب، في العالم المرجعي لروايته. ومنها الفساد الإداري، واستغلال السلطة، وصرف النفوذ، والمظاهر الفارغة، وعلاقات التملق والنفاق، وتربص الجميع بالجميع، وعدم الفاعلية، وغيرها. والمفارق أنّ الكراسي هي هاجس جميع الرجال في الرواية دون النساء، من هنا تتهم بعضهن المديني، باعتباره شخصية روائية، بالانحياز إلى الذكور على حساب الإناث. أيًّا يكن من أمر، نرى أنّ الفرّاش بو شارب يحلم بالترقي إلى رئيس ديوان ووزير في مرحلة لاحقة، ويتوخّى لتحقيق حلمه الوساطة، والتجسّس على الموظفين، والتزوير، والانتحال، والكذب، والاحتيال، والتمسكن، والتسلّل، فيحقّق حلمه، ولو إلى حين. وأنّ الأستاذ الجامعي الملوحي يحلم بالكرسي، ويتوخّى الخضوع، والتملّق، ومشاركة المسؤولين اجتماعيًّا، وتقبيل الأيدي، وإحناء الرأس، وعدم التدخّل في ما لا يعنيه. وأنّ مدير الثانوية المتقاعد الزاهد في السلطة يُضطرّ رضوخًا لضغوط زوجته الراغبة في التمتّع بامتيازات السلطة إلى التجسّس على روّاد المقاهي، وعرض نفسه على جواسيس آخرين، في إطار سعيه إلى كتابة سيرة للمدينة، يلفت بها أنظار المسؤولين، فيناله شيء من كعكة السلطة. وأنّ مدرّس الرياضيات ياسين بوزيان يحلم بتبوّء الوزارة، بعد التماس العفو من السدّة العالية، وإظهار الولاء التامّ لها بعد معارضة ظرفية، ويكون له ما حلم به. وأنّ المعتقل السابق عماد الهاشمي يتولّى إدارة المؤسّسة، بعد خروجه من تنظيم سرّي ينتمي إليه، وإعلان ولائه لأولي الأمر. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الشخوص يجمع بينها التحدّر من أصول ريفية، والوصولية التي تبرّر الغاية فيها الوسيلة، وتوخّي الوسائل غير المشروعة لتحقيق غايات مشروعة.
بالعودة إلى السلك المحوري في «لعبة الكراسي»، تقوم المدينية زهرة بصدم الريفي علال المتشرّد في المدينة بحثًا عن فرصة عمل بداية العلاقة بين الاثنين اللذين يشتركان في الذمامة، ويختلفان في المستوى العلمي والأصول الاجتماعية. ومع هذا، تنمو العلاقة بينهما حتى الزواج، وتستخدم زهرة علاقتها ببعض النافذين لتعيينه فرّاشًا في نقابة حزبية. ويتوخّيان معًا أساليب ملتوية للترقّي إلى رئيس ديوان الموظفين، ومن ثمّ إلى وزير. على أنّ علال المحدث النعمة يتنكّر لزهرة في ما آل إليه، ويجحد فضلها، فتقرّر معاقبته وإعادته من حيث أتى. لذلك، تغتنم فرصة الحفل الذي يدعو إليه في ملعب الفتح للتباهي بأسباب نجاحه، على مسمع من المدعوّين، وتستخدم نفوذها لإعلان انتهاء صلاحيّته، فيصدر قرار بإلغاء الوزارات التي يشغلها متسلّقون من أصول ريفية، ويُدفع الضيوف إلى الانتحار تماهيًا مع مسرحية الكرسي ليوجين يونسكو التي يتمّ عرضها خلال الحفل، وتغمر المياه القذرة مكان الاحتفال. وبذلك، تقول الرواية في نهايتها أن مآل المتسلّقين هو السقوط الحتمي، ويتنبّأ المديني بانتهاء أبطال الزمن الحالي من أسافل الأسياد.
وبعد، «لعبة الكراسي» التي يتوّج بها المديني مسيرة روائية طويلة رواية مختلفة. ولعل سر اختلافها يكمن في هذا الهامش الواسع من التجريب الذي يمارسه فيها، ويعكس جهدًا كبيرًا وإن تمّ تحت عنوان اللعب. وإذا كنت أتوقف بإعجاب عند جرأته في التجريب، على صعيد النوع الروائي، فإنّني أجدني أقرب إلى التحفّظ عندما يتعلّق الأمر باللغة والمسّ بلوازم أساسية فيها، سواءٌ أتعلّق الأمر بالترقيم أو بالتقسيم. على أنّ هذا التحفّظ لا ينتقص من أهمية الجهد المبذول في كتابة الرواية، ولا يقلّل من روايتها، فيأتي الجهد المبذول في قراءتها محفوفًا بكثير من المتعة والفائدة.
أحمد المديني يعرّي عبيد الكراسي
الكاتب : سلمان زين الدين
بتاريخ : 28/11/2025

