كثير منّا لم يعش لحظة المسيرة الخضراء، والأكثر ممن عاشوا زمنها لم يشاركوا فيها. ولكننا نملك أحكاما جاهزة وآراء موجهة حولها. في هذا الوضع، ليس أمامنا سوى التأويل بمعناه الأول في الثقافة العربية: أي استعادة الأحداث مع من عاشها وشارك فيها، من أجل إعادة بناء بعض من الواقع الذي كان، لفهمه واستيعابه. أما التأويل بمعنى التجاوز فهذا ليس مقامه.
يرصد هذا الحوار (بين الصحفي حميد برادة والمفكر عبد الله العروي) الدوافع الوطنية التي جعلت المؤرخ المغربي عبد الله العروي يشارك في المسيرة الخضراء، باعتباره فردا من 350.000 مشارك في الحدث: يحلل الحيثيات التاريخية والسياسية، وحتى الذاتية التي واكبت الحدث التاريخي سنة 1975 . يصف الأخطاء التي ارتكبت، والأحكام الانفعالية التي أصدرت وسبب تغير موقف السلطة المركزية والمسؤولين والحكومة، ثم الشعور الجماعي الذي طبع المرحلة.
يعرف عبد الله العروي الوطنية في مؤلفه « استبانة «(ص83): «الوطنية هي شعور وسلوك وتطلع «، ومشاركته في المسيرة الخضراء سلوك وطني لمؤرخ يقارن بين ما كان وما هو كائن، ولا يتوانى في التعبير عن شعور الرأي العام، والإقرار بهفوات المسؤولين وعدم تقديرهم لحجم الحدث وحدوده.
وتتأكد فكرة الوطنية من خلال إشارته إلى علاقته برئيس الدولة (الحسن الثاني)؛حين يؤكد في كتابه « المغرب والحسن الثاني: شهادة»( 2005): « تجاهلني، لمدة طويلة، كما هو شأن العديد من المثقفين الذين فضلوا الكتابة باللغة العربية، ثم في حدود 1985، ولأسباب لم أرد التعمق فيها، استدعاني وأسند إلي بضع مهمات رسمية، والتي قبلتها بدافع الوطنية « (ص.8).
وبما أنه « مؤرخ» أولا و «ناقد إيديولوجي» في مقام ثان، فإنه يضع الواقع التاريخي من جهة والمفاهيم من جهة أخرى تحت مجهر الاختبار والبحث من مراقب مختلفة. مع الحرص، دوما، على أن « الواقع سابق على المفهوم « ( انظر محاضرة عوائق التحديث لعبد الله العروي ،ص13). واقعية المثقف تجعله لا يستند إلى طوباويات تدفعه إلى توهم أشياء لم تحدث أو أمور قد تحدث، بل يرى الواقع ويتفاعل معه، يحلله وينتقده. فلا يقوم بتجارب ذهنية سريالية أو متخيلة، فيحلم بماض لم يكن أو مستقبل لن يكون. وقد شهدت الثقافة العربية الإسلامية كثيرا من الأفكار والنظريات الطوباوية بخصوص الدولة: طوبى الخلافة الإسلامية عند الفقهاء أو طوبى العقائد السياسية الغربية الوافدة عند المفكرين، مثل : الليبرالية أو الماركسية التي بقيت في حدود التطلع المبهم أو خلسة المختلس .(انظر مفهوم الدولة).
إن فكر عبد الله العروي الواقعي، وحرصه على «منطق الفعل» سلوكا، جعلا من هذه الواقعية موقفا معرفيا ينطبع بخصوصيات فريدة من خلال احتكاكها بالواقع التاريخي والكتابات التاريخية، ويمكنه أن يساهم في فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية ؛ أي التاريخية عامّة، وتدبرها بالاعتماد على المبادئ المعرفية التي تشكل عضد العلوم الاجتماعية؛ وهي: الوصف والمقارنة والتأويل.(انظر كتاب نقد المفاهيم، مقال تأصيل علوم المجتمع: المقارنة والتأويل).
واقعية عبد الله العروي تحيلنا على واقعية النابغة في الفكر والتاريخ العربي، العلاّمة ابن خلدون، الذي كان قاضيا وفقيها ومؤرخا، ولكنه لم يكن منفصلا عن واقعه أو مترفعا في برج عاج لا يلتفت لما يجري في الزمن الطبيعي؛ أي التاريخ. فقد قام ابن خلدون قيد حياته بعملين «ديبلوماسيين»؛ الأول سفره لمقابلة عظيم « الفرنج « بإشبيلية، و»المهمة الثانية قام بها تطوعا، ذلك أن سلطان مصر هبّ لمقاتلة تيمورلنك والدفاع عن مدينة دمشق ولسوء الحظ عاد السلطان إلى مصر تركا دمشق وجها لوجه أمام همجية تيمورلنك وجنوده، مما حمل ابن خلدون على المغامرة بلقاء تيمورلنك، فتدلى بحبال من أسوار دمشق، وقام بمهمة ناجحة، على أن تفتح المدينة أبوابها مذعنة طائعة، مقابل البقاء على الأعراض والأموال « (مقدمة ابن خلدون، مقدمة المحقق، طبعة بيروت ،ص8، 2011).
يدوّن عبد الله العروي لحظة تسجيل اسمه ضمن لائحة المتطوعين في المسيرة الخضراء بالعبارات التالية: «سجلت اسمي – كتبه الموظف لاروي- ضمن لائحة المتطوعين تحت رقم 5005.
مررت وأنا عائد من مقر العمالة بمكتب مصلحة السكنى فنادى علي من النافذة عبد اللطيف بنعمر السلاوي، أحد نزلاء دار المغرب بباريس. دار الكلام حول مشروع المسيرة. قلت إني من المتطوعين فاستغرب «(خواطر الصباح، يوميات (1974-1981)،ص.82 المركز الثقافي العربي، ط.2/ 2008).
لماذا «مشيت»؟
( 1980)
عبد الله العروي (47 سنة) متحفظ ومتعزِّل، يفضل هدوء المكتبات على حماس الطِّيات يميل إلى التفكير والبحث التاريخي بدل الصخب السياسي.
أليست هذه الطبائع التي جعلتنا نفهم بصورة خاطئة مشاركته في المسيرة الخضراء. مع ذلك، لم يتردد في تلبية نداء الملك وانخرط مع 350.000 مغربي ومغربية يوم 6 نونبر 1975، حاملين القرآن بدل البندقية من أجل استعادة الصحراء الخاضعة للحامية العسكرية الاسبانية.
إن تذكر الأحداث مع هذا « المشاء» المتفرد لهو أمر ذو قيمة كبرى. وعبد الله العروي المؤرخ هو في موقع متميز للجواب عن أسئلة أصبحت نقطا مرجعية في التاريخ؛ مثل: هل تنبأ الحسن الثاني، وهو يدعو إلى المسيرة الخضراء، بعجز فرانكو القريب؟ هل كان على يقين من الانتصار أم عّول على « البركة»؟
إن حساسية عبد الله العروي تجاه الغوغائية، وقدرته على المواجهة هيآه للإجابة عن تساؤلات ذات طبيعة مستقبلية، إن لم تكن ذات راهنية حارقة. كانت المسيرة الخضراء، دون شك، استعراضا للحماس الوطني، ولكن إلى أي حد لم تكن مجرد نزوة؟
بعبارة أخرى: بعد خمس سنوات من الحرب الطاحنة، هل يمكن أن يتعاضد المغاربة من جديد، هل يمكن أن «يمشوا» مرة أخرى؟
p حميد برادة : مثقف يحمل هم البحث والتفكير أكثر من الفعل، ورغم ذلك لبيتم نداء الملك في نونبر 1975؟
n عبد لله العروي: هناك، بطبيعة الحال، أسباب عديدة، ولكن أهمها ذا طبيعة فكرية. كنت قد أنهيت للتو بحثي حول الوطنية المغربية، والذي مكنني من اكتشاف وضعيات؛ إذ إن ساكنة الأطلس المتوسط، مثلا، والتي لم تكن تعرف الحكم المركزي استجابت دون تردد لنداء السلطان عندما تعلق الأمر بالدفاع عن أراضي شمال أو جنوب البلاد. هذا، وإبان حرب تطوان ضد الإسبان، سنة 1860 كانت دعوات «الفقها» (الطلبة) بأسواق مدينة أزرو للجهاد بالريف، تلقى استجابات آنية.
pحميد برادة: المعارضة (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) تحديدا، والذي كانت لك به صلات عدة، لم يتلق نداء المسيرة بحماسة، ونادى بتحرك عسكري ضد الإسبان …
n عبد لله العروي: يمكننا التساؤل عن حظوظ نجاح المسيرة الخضراء، ولا يمكن التردد في المشاركة. ولكن لا شيء كان محسوما مسبقا: كان مرجحا أن المسيرة الخضراء لن تصل إلى هدف تحرير الصحراء، لأن القوات الإسبانية كان بإمكانها، في أي لحظة، استخدام القوة.
p حميد برادة : هل تفاجأت من موقف مدريد ؟
n عبد الله العروي : مثل الجميع. الموت المفاجئ لفرانكو غير خطط إسبانيا والجزائر.
pحميد برادة : في رأيك هل كانت من ثمار عبقرية الحسن الثاني أم ضربة حظ ؟ ما نصيب» البركة» من كل هذا ؟
n عبد لله العروي: لا أطيق بتاتا هذه الكلمة. هذا، وأفترض أن الملك كان على علم بالوضعية الداخلية لإسبانيا، كما يجب أن يكون الشأن لكل رئيس دولة يواجه وضعية ديبلوماسية وعسكرية صعبة. ولكن السبب الرئيسي الذي دفعه لنداء المسيرة الخضراء هو عدم استعداد المغرب للدخول في مواجهة عسكرية تقليدية. كما أن الطريق بين طرفاية والطاح أكملت في يوم الصدح بنداء المسيرة. كان لابد من التحضير للرد في انتظار الجاهزية العسكرية. الحاصل أن المسيرة الخضراء مكنت المغرب من وضع اليد على مجال صحراوي (بعيدا عن مثلث العيون-السمارة-الداخلة)، والذي أخلاه الإسبان باتفاق مع شركائهم الجزائريين.
p حميد برادة : لم يكن الحسن الثاني موقنا من نجاح العملية. كانت رمية نرد…
n عبد لله العروي: لا أحبذ هذه الصيغة .لأن لا أحد كان على يقين من الفعل ، سواء كان سياسيا أو عسكريا. ولكن بالنظر إلى موقف مدريد ابتداء من ربيع 1975، كان منتظرا أن يكون هناك سباق بين الجيشين المغربي والجزائري لمعرفة من سيضع يده أولا على أكبر نصيب من المجال الذي أخلته إسبانيا. والكثير من الصحافيين والسياسيين ينسون، اليوم، أن القوات الجزائرية احتلت شرق الصحراء (كلتة زمور، محبس،أوسرد). وفي هذا السياق ، لم تكن المسيرة الخضراء، على الأرض، سوى رد على الموقف الجزائري.
pحميد برادة: هل كنت على معرفة بهذه المعلومات؟
n عبد لله العروي: لا ، ولكن الحسن الثاني لم يكن ليجهلها.
p حميد برادة: ما الذي بصم ذاكرتك خلال الأيام الخمسة وهي مدة المسيرة؟
n عبد لله العروي: أول شيء التنظيم، انتشار 350.000 من الرجال والنساء، وتزويدهم بالماء والأكل، وخصوصا حركة السير (الطريق التي تم سلكها ابتداء من طانطان ضيقة جدا) كانت دون ازدحام أو عرقلة.
كان مشكل التنظيم مطروحا في كل لحظة، كل دقيقة تمر دون حادث اصطدام كانت بمثابة معجزة. كما أن الصحافيين الذين حضروا المسيرة في حدود منتصف النهار يوم 6 نونبر بالطاح، كان بإمكانهم العودة إلى أكادير، أي مسافة تقارب 700كلم، حوالي ست أو سبع ساعات.
الأمر الثاني الذي أثار انتباهي، هي التعليقات الشفوية للصحافيين الذين رافقتهم، حيث تتنافى مع ما سيكتبونه أو ما ستنشره جرائدهم.
كان يقول المراسل الخاص، لجريدة باريسية مرموقة، لأحد زملائه:»هل يمكنك أن تتخيل الأوروبيين يتخلون عن عوائدهم وينطلقون في عملية من هذا الحجم». صحافي آخر، بريطاني هذه المرة، قادم من إيرلندا، والذي ليس له كبير معرفة بالصحراء وقع ورقة تتساءل عن «الرحل المغاربة «.
ولكني أحتفظ في ذاكرتي بمشهد رأيته أثناء عودتي مع الصحفيين. كان وقت الغروب، وضوء أصفر يمسح الأفق. كنا على مشارف ثلاثة كيلومترات من المركز السابق للحدود. كان، هناك، طفل وحيد، يحمل راية مغربية أكبر منه وكان يحاول غرسها قرب شجيرة، في فضاء صحراوي فارغ. في نظري، كانت هذه هي المسيرة الخضراء، حماس وطني منقطع النظير.
p حميد برادة :عندما أصدر الملك أمره بانسحاب « المشائين» ومن ثمة نهاية المسيرة الخضراء، ألم يعتورك شعور بالإحباط ؟
n عبد لله العروي: بالتأكيد ، لم أستسغ ما حدث لسبب بسيط: الإعلان عن عودة إلى حدود 6 نونبر كان يؤكد وجود هذه الحدود. ولكن، بالنظر إلى أن المسيرة الخضراء كانت، أساسا، عملية سياسية، من أجل البرهنة للمنتظم الدولي أن المطالب المغربية جادة لأنها شعبية، وصلت إلى هدفها. على كل حال ، لم أتصور، أبدا، أن ملف الصحراء يمكن أن يغلق بسبب أطماع ومصالح الدول القريبة أو البعيدة.
p حميد برادة : ماذا كان إحساسك وأنت تجتاز حدود « الصحراء الإسبانية سابقا»؟
n عبد الله العروي : يجب أن أقر أنني لم أؤد الصلاة الرسمية لأنني لم أرد أن أتجرد من هدوئي الموضوعي . ولكن يجب أن أقول أنني أحسست بشعور أعمق من ذلك الذي اختبرته يوم حصول المغرب على استقلاله.
p حميد برادة : لماذا ؟
n عبد لله العروي: ربما لأنه سنة 1956، كان سني 23 عاما، ولم يكن وعيي السياسي قد تشكل بقوة. وتحديدا لأن المسيرة الخضراء كانت ذات طابع تطوعي، في حين أن استقلال المغرب كان نتيجة مفاوضات ديبلوماسية في نهاية التحليل. كان المغرب حاضرا بقوة في المسيرة الخضراء أكثر منه في مسار الاستقلال.
p حميد برادة: كيف تفسرون أن هذا الحماس الوطني، والإتقان التنظيمي الذي ذكرتموه بخصوص المسيرة الخضراء، لم يتجسد في وقت لاحق ؟
n عبد لله العروي: في حياة الفرد، كما في حياة كل أمة، هناك لحظات يمكن وصفها بالتاريخية، وإن أردتم بالشاعرية. في حين أن الحياة اليومية تبقى نثرية…
أضيف أن المسؤولين المغاربة لم يأخذوا مشكل الصحراء على محمل الجد ، لم يلتقطوا إشارة أن إسبانيا لم تكن الخصم الأول، ومن ثمة، لم ينتبهوا إلى أن المسيرة الخضراء هي بداية مسار ولم تكن نقطة نهاية.
p حميد برادة: ألا تعتقدون أن السلطة المركزية، لأنها كانت تعرف قيمة ظاهرة المسيرة الخضراء، كانت تفضل عدم استنفار الناس، وحل مشكل الصحراء بالوسائل الأكثر تقليدية؟
n عبد لله العروي: اعلم أن المسيرة الخضراء كلفت غاليا، لأن أي سلطة لم يكن بإمكانها تدبير استنفار بهذا الشكل، إضافة إلى أنه لم يكن بمقدور أي حكومة تحويل الحراك الشعبي إلى قوة ضاربة عسكرية. فالحكومة حسب التعريف، تفضل العمل بالأجهزة المتحكم بها. هذا، وقد قدر المسؤولون، خطأ، أن مشكل الصحراء تم حله سنة 1975، وأنه لم تعد، هناك، سوى تدابير إدارية محلية. ويجب القول إن الرأي العام بالبلد عاد، بدوره، إلى مشاغله اليومية.
p حميد برادة : هل يمكن أن تكون، هناك، مسيرة خضراء جديدة بنداء ملكي ؟
n عبد لله العروي :إذا اعتدى بلد ما على المغرب، فدون شك، سيكون رد مشابه بحماس مماثل.
p حميد برادة : ليست الاعتداءات الخارجية هي ما كان ينقص المغرب منذ 1975 ؟
n عبد لله العروي: تماما، المشكل في نظر السلطة، كان دائما، هو تهدئة الرأي العام، مما يثبت أن هذا الأخير لم يكن بحاجة إلى استنفار مصطنع.
(للإشارة أجري هذا الحوار
مع الأستاذ عبد الله العروي سنة 1980)
المصدر:
*حميد برادة، أنطولوجيا الحوارات، الجزء الأول، 1977-2012، منشورات «كيلت» 2025.

