عندما علمت أن الطائرة المتجهة إلى باريس والقادمة من مطار لوس أنجلوس بأمريكا، ستحط رحالها لبضع ساعات بمطار محمد الخامس بالدار البيضاء، تبادر إلى ذهني فورا زيارة جدتي مِّي مليكة التي تسكن بقلب المدينة القديمة وتحديدا بالزنقة 5 قرب عرصة بن سلامة.
الزنقة 5 التي لم تعد أبدا كما كانت؛ بأجوائها الشعبية وصخبها منقطع النظير. كانت الزنقة 5 في كل يوم مسرحا لقصة من القصص أو حدث من الأحداث. أضحت اليوم خاوية على عروشها إلا من حكاياتها القديمة وشخوصها الغائبين، كل الذين عرفتهم بها إما ماتوا أو هاجروا أو أنهكهم المرض والشيخوخة.
مثل با مسعود الذي كان يشتغل قيد حياته ب(لامارين) والذي تعود أصوله إلى الرحامنة، كان با مسعود رجلا مهاب الطلعة، يجلس بهيئته الوقورة الجميلة على كرسيه في رأس الدرب. هندامُه فوقية فستقيةٌ تعترضها خطوطٌ خضراء اللون.. طاقية وبلغة صفراء، ثم الخاتم الفضي الذي يزين خنصره، بالإضافة إلى عكازه الذي لا يفارقه. ينظر إلى ساعته اليدوية التي تشير إلى الساعة 12 ظهرا، حان موعد العودة إلى البيت، فبّا مسعود أخذ كفايته من أشعة الشمس الضرورية لهذا اليوم.
أتذكر ڴعبول الذي كان يأتي من جنوب الزنقة 5 ليشاركنا اللعب، احتقارنا له لم يكن لينال منه، فقد كان يشاركنا اللعب والقسوة والسُّخرة دون ضيق أو ضجر إلا في بعض الأحايين النادرة، فقد كان والده مغني أعراس شعبي لا نراه إلا ليلا وهو يلتحق بجوقته الصغيرة صوب قاعة أفراح أو عُرسٍ في منطقة بعيدة، أما أمه فقد كانت تقيم حفل شعبانة كل عام بطقوس خاصة لم أر مثيلا لها في حياتي؛ أكَلة زجاج، شاربو ماء مغليّ، رجال بجلاليب فضفاضة وشوارب كثـة يطعنون أجسادهم دون أن تسيل منهم قطرة دم واحدة !
كان هناك أيضا الـجّْن، لقب بالجن يوم شوهدت مهاراته الفائقة في التقاط الكرة من تحت السيارات والشاحنات الرابضة في الشارع، وفي رواية أخرى لقب بالجن لأنه لطالما شوهد وهو يحدث نفسه بالخيالات والأوهام عندما كان طفلا صغيرا. أضف إليه الـمُشّْ الذي لم تهده زرقة عينيه سوى هذا اللقب الذي لم يفارقه إلى اليوم. وهل أنسى «بَصْلة»؟
بصلة الذي كانت والدته سوسية تنحدر من بلاد الشلوح، كان والده أصمّ أو ربما كان قليل السمع، بصلة هذا كان معروفا بانضباطه وابتعاده عن لعب الأقران، هو الآخر اختفى من الحومة وقد سعدت مؤخرا لرؤية صوره على فيسبوك يقضي عطلته بجزر المالديف. بصلة الذي لم نكن نعرف له لقبا غير لقبه بصلة سنتساءل جميعا عن اسمه الحقيقي عندما التفت سائق التاكسي الذي أقلنا إلى شاطئ سيدي رحال ليرى أين هو بصلة قائلا باستغراب ساخر: واش معكم شي حد هنا سميتو بصلة؟ ! قبل أن يدخل في نوبة ضحك لم تهدأ. لكن سائق التاكسي المسكين لم يكن يعرف أن في الزنقة 5 رجل يدعى «مطيشة» لا لشيء سوى لأن حرفته هي بيع الطماطم في السوق وكان يكفينا لنعكر صفوه أن يمر أحدنا بجانبه وهو يهتف مطيشة 40 مطيشة 60 !
كل الذي ذكرت في واد و«حَنْفَـزُ» في واد، سليل أسرة مشاغبة عاشقةُ مشاكل، حتى رجال الأمن يهابونها، خصوصا إذا ما قرر حنفز وإخوته الاحتماء بسطح البيت وقذف البوليس بالقارورات والهراوات وأنواع السباب والشتائم… حنفز الذي يقضي الشتاء في عكاشة والصيف في الزنقة 5 يوميا ما يصنع لأهل الدرب حفلة، يشتري أكياس البيرة والروج، ثم يضعها أرضا محاطا بأصحابه الذين فور أن يتفرقوا وتنقطع أوتار سعيد ولد الحوات والصنهاجي يبدأ بالعربدة وتصفية حساباته مع أعدائه اللدودين منهم الـمْجهد الذي يقسم حنفز بأغلظ أيمانه بأنه سوف يشي به للمخزن لضلوعه في بيع حبوب الهلوسة لصغار الحي ومعاشرة زوجة جاره حـمُّودة ولـد رحمة.
وأي غبطة تفوق غبطة اللحظة التي نسمع فيها عبارة «مطايفة مطايفة» ذلك أن موعدا مع فرجة حصرية لا يجب تفويته، وأي تشويق ذاك الذي كان يصحب الحشود الفارة من قهوة المشاكل باتجاه الدرب لأن سرية للشرطة داهمت المكان فجأة بحثا عن الحشاشين ومروجي المخدرات.
من سوء حظ رائدات حمام السعادة أن جدار الحمام كان مرمى لنا نحن الصغار ونحن نلعب «خميسة أو ثلاثية» ولكَم عانَتْ معنَا مِّي السلاوية وهي تصدنا بعيدا، ولكم كانت سعادتنا أكبر وحظنا أوفر عندما يتسنى لأحدنا التقاط الكرة من داخل الجُلسة لنرى صدرا عاريا أو مؤخرة تستعد لدخول «السخون».
اليوم الزنقة 5 مجرد أثر بعد عين؛ لمة رأس الدرب لم يعد لها وجود، لا صغار بها ولا نساء عند عتبات البيوت ولا شيوخ، كانت الزنقة 5 بيتا كبيرا واحدا، اليوم مجرد صمت مطبق، ومنازل آيلة للسقوط، وقهوة المشاكل لم تعد بعد قهوة المشاكل، صارت مثل كل المقاهي، صار بها جرسون وأضواء تند من السقوف وبها واي فاي… حتى لعميم الذي كنا ننتظر على أحر الجمر مروره ظهر كل يوم ببلوزته البيضاء وطربوشه الأزرق ليقدم لنا أحلى» لبني» تمر الثانية عشرة ظهرا دون أن يمر أو نسمع هتافه الموقع «لَبَنِيّ لَبَنِيّ…» فبا مسعود انتقل إلى رحمة الله وڴعبول قيل لي إنه اختفى وأسرته، الجن هاجر إلى إيطاليا، المش سافر إلى مدينة أخرى ليتم دراسته العليا، وحنفز على الأرجـح في عكاشة. أما أنا فبنظراتها ودعواتها ستُرافقني جدتي إلى أن تحركت سيارة الأجرة باتجاه محطة القطار، بعد بضع ساعات سأكون بالضاحية الشرقية لباريس حيث أقيم، وعليّ أن أمر بجانب المحطة القديمة بواجهتها التقليدية ذات الأبراج المنقوشة بالجبس الأبيض والقرميد الأخضر لألج المحطة الجديدة عبر درج آلي ومحلات تجارية فـخمة وأستقل البراق باتجاه مطار محمد الخامس ثم باريس، باريس التي لم تعد هي الأخرى باريس والمحطة التي لم تعد هي الأخرى المحطة، وأنا هل ما زلت أنا؟
ملحوظة: كل تشابه في الأسماء والأحداث هو من محض الصدفة

