«أرواح لا تهزم» لملكاتب المغربي صطفى البوسعيدي .. تشابك الحكايات الفردية مع مأساة الوطن

تندرج رواية «أرواح لا تهزم» للكاتب المغربي المصطفى البوسعيدي في إطار أدب المقاومة، حيث تتشابك الحكايات الفردية مع مأساة الوطن، ويصبح الأدب مساحة للحفظ والاحتجاج، ولإعادة بناء السردية الفلسطينية في وجه محاولات الطمس والتشويه التي تتعرض لها، وهنا تحمل الرواية رسالة مفادها أن معنى البقاء لا يتحقق إلا بقدرة الإنسان على إعادة توليد حياته من العدم، وأن الروح الفلسطينية أكبر من أن تُهزم مهما توالت عليها المصاعب.
تشتبك الرواية الصادرة عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن (2025) مع تفاصيل الحرب على غزة، مستعيدة مأساة الإنسان الفلسطيني في واحدة من أقسى لحظات التاريخ المعاصر وأكثرها دموية، وهي محمّلة بنَفَس إنساني طويل، ولغة آسرة تستند إلى رؤية فكرية وسياسية واضحة، تُبرز المأساة من جهة، وتوثّق البطولة والصمود من جهة أخرى، مستندة إلى شهادات حيّة وصور قاسية تابعها القاصي والداني على حد سواء.
تبدأ الرواية التي جاءت في ما يقارب 200 صفحة من القطع المتوسط، بانفجار الحرب على غزة من دون مقدّمات، لتدخل بالقارئ مباشرة إلى قلب المأساة عبر شخصية إياد، الشاب الغزّي الذي يجد نفسه في مواجهة عالم ينهار فوقه؛ عائلة تُباد، ومدينة تُقصف، ومستشفى يُدمَّر، وناس يهربون من موت يطاردهم في كل اتجاه، يقول الراوي:
«يا لهول المعاناة! يفرّ أبناء الوطن مغلوبين على أمرهم كنحلٍ يقاوم هبوب الريح، يحمل الرجل جرّة الماء لصغاره، وابنه يحمل قطع خبز متعفنة، وامرأته تجرّ طفلين توأمين، وهي تدعو الله ألا يموت أحدهما أمام أنظارها، متمنية رحيلها نيابة عن أفراد أسرتها، تاركة فرصة الحياة لفلذة أكبادها، فالوطن في حاجة إلى صغاره قبل شيوخه».
ومن خلال شخصية إياد يعيد الروائي تركيب مشاهد الحرب كما لو أنّه يصوّر فيلماً وثائقياً، لكن بلغة أدبية مشحونة بالعاطفة، تتقاطع فيها الأصوات؛ صوت الأم، وصوت الجدة، وصوت المقاومة، وصوت الأطفال الذين يغيبون قبل أن تتاح لهم فرصة معرفة العالم، ويتحول إياد تدريجياً من شاب يعيش تفاصيل حياة بسيطة، إلى مقاتل يحمل روحه بين يديه، مدفوعاً بالغضب والفقد والإيمان بالحرية.
وتحضر المرأة الفلسطينية في السرد كرمز لاستمرار الحياة، لا سيما من خلال شخصية العجوز «الحاجة عائشة» التي تشكل رمزاً للثبات والانتماء، رغم الفقد والموت والدمار، وتظهر الأم كذلك بوصفها الملاذ الأخير للإنسان في زمن الحرب، تحمي أبناءها بما يتبقى من قلبها، وتمنحهم معنى جديداً للحياة في لحظات اليأس:
«ظلت الحاجة عائشة العجوز، تقاوم الموت، وتصرّ على تتبع كل كبيرة وصغيرة، مقتنعة أنها لن تتخلّى عن قريتها، ولو قُتلتْ وقُطعت أوصالُها، فلن تترك أي شبر من الأرض؛ إذ يكفيها ارتواء تراب وطنها من دم لحمها اليابس، فعلى الأقل سيريح ذلك قلبها، ويزيدها عزة بانتمائها إلى سكن مريم العذراء. صارت تعد رحيل أبنائها، وبناتها، وكل أحفادها، مشبهة إياهم بتساقط أوراق الخريف بلا ميعاد. لم تجد من تتكلم معه، فنادت على قطتها البيضاء، تعالي بنتي واقتربي مني، فقد نفترق في أي وقت، ها نحن قد صرنا نعلم بمجيء الموت أكثر من علمنا ببقائنا على قيد الحياة».
تتراوح لغة الرواية بين الحكي الواقعي القاسي، والبعد الشعري الذي يضفي على الرواية لمسة فلسفية عميقة، فالخراب في الرواية ليس مجرد حدث، بل حالة نفسية وروحية يعيشها الفلسطيني كل يوم، ولذا يتحوّل السرد في كثير من المقاطع إلى خطاب تأملي يُجادل المعنى والقدر والهوية.
لا تُخفي الرواية موقفها الفكري الواضح؛ فهي تدين الاحتلال وتفكك خطابه الإعلامي والسياسي، وتطرح أسئلة حول صمت العالم، وتواطؤ القوى الكبرى، وغياب العدالة، ليصبح النص أشبه بصرخة أدبية عالية في وجه التاريخ، كما تمنح الرواية مساحات واسعة لمشاهد المقاومة، التي يصورها الكاتب لا بوصفها عملاً عسكرياً فقط، بل فعلاً وجودياً يوازي الحياة نفسها، فتحت الأرض وفي الأنفاق، يرسم السرد ملامح رجال يخرجون من بين الركام، يواجهون جيشاً مدججاً بالسلاح بإيمانهم وصمودهم.
وفي خاتمتها، تنتصر الرواية لجوهر العدل الإلهي، ولحتمية انتصار الحق على الباطل، إذ تُختتم بنبرة إيمانية تُؤكد أن الخير لا بد أن يغلب الشر، وأن شمس العدالة وإن غابت مؤقتاً، فإنها ستشرق من جديد، وذلك عبر مشهد لإياد وزوجته خلود التي كانت: «تضمّ بطنها برفق، كأنها تُهدهد الحياة وسط بركان، وتهمس لجنينها: لا تخف… أمّك وطن، وفي رحمها سلامٌ لم يولد بعد».


بتاريخ : 02/12/2025