أكاديمية المملكة تنصب مارسيل خليفة عضوا شرفيا

«مارسيل خليفة المغربي»

تنظّم أكاديمية المملكة المغربية، يومه الأربعاء 3 دجنبر 2025 بالرباط، حفل تنصيب الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة عضوا شرفيا في الأكاديمية.
ويأتي هذا الاختيار اعترافا بمكانة خليفة المتميزة في وجدان الموسيقى العربية، بوصفه أحد أعمدتها ووجها من أبرز وجوه التجديد فيها؛ فقد استطاع، على امتداد مسيرته، أن يفتح آفاقا موسيقية جديدة، ويمنح الأغنية العربية نفسا مختلفا يقوم على الإبداع والانحياز لقضايا الإنسان، بعيداً عن الابتذال الذي يحوّل الموسيقى إلى مجرّد إيقاع للترفيه.

 

مثل العائد إلى بيت يعرف كل أركانه، وكل الظلال الدافئة التي تفتح ذراعيه على اتساعهما لاحتضانه، حين حط مارسيل رحاله في طنجة وهو في الرابعة والستين من عمره، باحثا عن نغمة تترجم بقايا الحلم الذي تركه هناك في بيروت، المدينة التي ترفع من أرضها رائحة الصنوبر والعنب والتاريخ.
وُلد مارسيل خليفة في بلدة عمشيت الساحلية في شمال لبنان سنة 1950، ونشأ في فضاء قروي كانت فيه الموسيقى جزءا من اليومي، تختلط بأغاني البحر والمواويل، وتتغذى من تداخل الموروث الشعبي بالتراتيل الكنسية.
في هذا المناخ تشكلت بدايات موهبته، فتعلم العود مبكرا، ثم التحق بالمعهد الوطني للموسيقى في بيروت ليتلقى تكوينا أكاديميًا صقل قدرته على المزج بين القواعد الصارمة للكتابة الموسيقية والنبض الحر للتجريب.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي، انتمى مارسيل خليفة إلى زمرة الموسيقيين العرب الذين صنعوا «يقظة موسيقية عربية» تبحث عن لغتها الخاصة في زمن الهزائم الكبرى، فجاءت ألحانه في تلك المرحلة محملة بالقلق والشغف، وأيضا بالرغبة في الدفع بالموسيقى نحو أفق يقوم على البناء والمواجهة والتجديد، وإخراج الألحان من نبرتها الخافتة إلى النبرة التي تعبر عن الذات العربية الجريحة، وعن ضرورة الوقوف والاستمرار في المواجهة. بيد أن لقاءه القدري بشعر محمود درويش مكنه من تحقيق نقلة كبرى في علاقته بالموسيقى، إذ جمعت بين الموسيقي والشاعر «صداقة جمالية» ضربت شهرتها الآفاق، حتى لكأن القصيدة تنبعث من جوف الموسيقى، والموسيقى تولد من رحم القصيدة: علاقة جعلت من القصيدة أغنية، ومن الأغنية بيانا إنسانيًا واسع التأثير. «أحنّ إلى خبز أمّي»، «جواز السفر»، «ريتا»، «أمي»، «أنا يوسف يا أبي»،» غنائية أحمد العربي»، «أجمل الأمهات»، «يعبرون الجسر».. كلها «تواطؤ فني» مشترك بين موسيقي وشاعر، بل نصوص مؤسسة لذائقة عربية كاملة، تزاوج بين الوجدان الفردي والجماعي، وتضع الحب إلى جانب الوطن دون افتعال أو مباشرة.
في زمن الحرب اللبنانية، تحوّل مارسيل خليفة إلى أحد الأصوات التي قاومت الانقسامات باللحن، فلم ينخرط في خطاب حزبي، بل ظل يحمل تصورا فنيا عن وطن يتسع للجميع. إذ أسس فرقة «الميادين» التي تمثل تعبيرا عن هذا الإيمان، كما اختار لها اسما معبرا يستحضر الساحات (الأليغورا) التي يجتمع فيها الناس لا السقوف الأيديولوجية الضيقة.
استوحى مارسيل خليفة ألحانه من المقامات الشرقية، لكنه أعاد ضبطها داخل «هندسة لحنية» تمتد نحو الكلاسيك والتجريب. كما ألف مقطوعات أوركسترالية، وكتب أعمالا لمسرحيات ورقصات معاصرة، وأنجز أعمالا للبيانو والعود المنفردين، كاشفا عن رغبة في توسيع أفق الموسيقى العربية خارج الوظيفة الغنائية المباشرة. كان يعتبر العود ليس مجرد آلة تراثية، بل مختبرًا حرًا يستطيع عبره التفكير في الموسيقى وتطوير لغتها، لذلك قُدّر لأعماله الآلية مثل «جدل» و»الجسر» أن تصبح علامات في مسار تحديث العزف على العود.
بيد أن علاقة مارسيل بالشعر لم تتوقف عند درويش، فقد لحن لعدد من الشعراء العرب (طلال حيدر، نزار قباني، عبد الرحيم منصور، محمد الماغوط، قاسم حداد، خالد أبو خالد..إلخ)، واستعاد نصوصا تراثية وصوفية، وأعاد توظيفها في سياق معاصر، بل إنه أقدم على كتابة نصوص مجموعة من أغنياته الأخرى (سلام عليك، أنا والبحر، الغربة..)، مؤمنا بأن القصيدة قادرة على أن تتنفس بقوة عندما تلتقي باللحن الذي يرافقها، ولا يتسلط عليها، مما جعل موسيقاه تتحرك مثل ظل للنص، أو كامتداد روحي له.
واجه مارسيل خليفة محطات صعبة، منها جدل قضائي وإعلامي بسبب أدائه لقصيدة «أنا يوسف يا أبي»، ومنها انتقادات سياسية من أطراف متعارضة، لكنه ظل متمسكا بتصوره للفن كمساحة حرة، وكموقف إنساني يتجاوز الاصطفافات السياسية أو الإيديولوجية. وكان يصر، في جميع هذه المحطات، على أن الموسيقى تعبير جمالي عن كرامة الإنسان في مواجهة الخوف. ولذلك احتفظ بجمهور واسع في العالم العربي وخارجه، جمهور ظل يرى فيه صوتا صادقا لا يبيع الوهم، ولا يكرر الشعارات، ويأخذ الفن على محمل الجدّ.
لقد عرف الجمهور المغربي مارسيل منذ زمن بعيد، منذ تلك الليالي التي كان فيها الصوت يأتي من بعيد، ليغني عن شجرة «الصمود» التي كبرت في الجنوب اللبناني ثم حملت ثمارها إلى كل الجهات. كان الطلبة والتلاميذ المغاربة يستمعون إليه في ليال طويلة، يرفعون الصوت مع «جواز السفر» و»يعبرون» و»ريتا» و»منتصب القامة أمشي»، ويجدون في تلك الأغنيات مرآة لحياتهم وأحلامهم وتوتراتهم ومخاوفهم ورغباتهم.
بيد أن العلاقة بين مارسيل والمغرب لم تبدأ في المسارح، ولا في الحفلات الكبرى، ولا حتى في التكريمات الرسمية؛ إنها بدأت في الأعماق، حيث يجد الإنسان في الناس الذين يحبونه نوعا من التعويض العاطفي، بل نوعا من الامتداد الروحي. ولهذا، حين تلقى خليفة جائزة زرياب للعود في مهرجان تطوان الدولي (ماي 2013)، لم يتلق مجرد جائزة موسيقية، بل تلقى ما يشبه الاعتراف بحضوره في الوجدان المغربي. وقد عبر بنفسه عن هذا الشعور عندما كتب رسالة نشرها على حسابه الرسمي، يقول فيها: «لقد لثمت أرضكم بعيني وجسمي كله، ودخلت بطيات قلوبكم التي لا حصر لها. وسفحت فوق دروبكم شتى الأغنيات وأعترف لكم بأنني أعبد نور السماء الكامن في نفوسكم. ينبغي أن يكون هناك تفسير لهذا الحب، تراني أستطيع أن أعلم، لم أخذتني تلك الطفلة بين ذراعيها؟ ما هي تلك الموسيقى التي تهدهدكم بإيقاعها؟ فإن هذا النغم هو نفسه الذي أنشدته في أمكنة مختلفة».
وأضاف: «ولكن عندكم أضحى النغم خالدا، في بريق لحظة خاطفة أنسى مشقة الطريق وظمأ المسافة وحين أصل إليكم أهفو إلى أصواتكم الصادحة، أهفو إلى لمساتكم. إن في قلبي لحنا، إنه يحمل عبء المقام الذي لم يمنحه إلا حضوركم الشجي. أتمسك بأياديكم وأملؤها وأحفظها، أشعر بلمستها في الامتداد المتصل بين مقاعد الصالة».
وأنهى مارسيل رسالته بقوله: «أيها المغرب الجميل، البسيط أستمسك بحبك الذي لا يعرف الحدود، حب ندي نقي كمطرك الذي يبارك الأرض العطشى ويملأ الجرار، حب ينفذ إلى أغوار الوجود، حب يسربل القلب بالأمن، يا أهلي في المغرب أضمكم إلى صدري وأهزج باسمكم، إنني شبيه بالطفل الكبير الذي ينادي أمه مائة مرة، وهو سعيد بأن يتأتى له ترديد كلمة: أماه».
ثم جاءت طنجة، المدينة التي تشبه القصائد الهائمة بين بحر وأفق بلا نهاية. اختارها مارسيل كما يختار القلب مكانه الطبيعي؛ مدينة تتقاطع فيها الثقافات، تعبرها الرياح القادمة من الأطلسي، وتجاورها ذاكرة أندلسية طويلة، وتختلط فيها اللهجات، وتتنوع فيها الألوان. في طنجة، استقر مارسيل ليس بوصفه فنانا يبحث عن الهدوء فقط، بل بوصفه إنسانا متعبا من المدن الصاخبة، ومن العروض المتواصلة، ومن السفر الذي لا ينتهي، ومن حياة كانت تزداد ضجيجاً كلما غنى. هناك، في شرفة تطل على البحر، وجد ما كان ينقصه: صمت يتيح للعود أن يسمع نفسه، وسكينة تمنح الجسد فرصة ليستعيد إيقاعه الطبيعي، ومدينة تستطيع أن تحتضن فناناً لا يريد إلا أن يكون قريبا من الناس.
استقر مارسيل خليفة في طنجة سنة 2014، وأخذ يشارك في الحياة الثقافية المغربية بكل تواضعه ودفئه وحضوره؛ وقال: «أتيت إلى المغرب كي أتعلم، فالتراث المغربي غني، وأحب أن أستفيد منه، من التراث الأندلسي إلى التراث الأفريقي، إلى التراث العربي، إلى التراث الأمازيغي». ثم قرر بعد ذلك افتتاح «معهد مارسيل خليفة للموسيقى والفن»، وذلك بالتعاون مع شركاء مغاربة وعلى رأسهم مجلس مدينة طنجة.
حين اختير مارسيل ليكون عضوا شرفيا في أكاديمية المملكة المغربية، يومه الأربعاء 3 دجنبر 2025، فذلك عنوان لتثبيت لإقامة روحية وثقافية بدأت منذ سنوات طويلة، إذ أصبح من الوجوه البارزة في المعهد الأكاديمي للفنون التابع لأكاديمية المملكة، حيث ألقى عددا من الدروس هي أقرب إلى رسائل في الجمال والفلسفة وعلاقة الفن بالحرية والذاكرة. فقد جلس أمام الشباب يحدثهم عن معنى أن تحمل عودا وتمشي به في العالم، عن معنى أن تحمي الحلم من اليأس، عن معنى أن تمنح الموسيقى دورا يتجاوز الترفيه إلى المشاركة في كتابة الوعي.
كانت محاضراته تجمع بين التجربة والسيرة والرؤية، بين ذاك الطفل الذي بدأ يغني في قرية عمشيت، والرجل الذي صار رمزاً عالمياً في الموسيقى الملتزمة. وقد استمع إليه الطلبة كما لو أنه جزء من ذاكرة شخصية لكل واحد منهم، أو جزء من الأغاني التي رافقت طفولتهم ومراهقتهم وأحلامهم الأولى.
ولأن المغرب لا ينفصل عن طنجه، ولا طنجة عن عمقه الثقافي الواسع، فقد امتدت علاقة مارسيل بالبلد إلى مدن أخرى، من بينها وجدة، المدينة الشرقية التي احتفت به في واحد من آخر تكريماته. هناك، لم يكن التكريم مجرد ه درع تكريم أو شهادة أو كلمة ترحيب، بل كان احتفالا شعبيا باسم امتدت جذوره إلى قلوب المغاربة، احتفالا برجل صار البعض يسمونه- من باب المحبة — «مارسيل المغربي «.
تحدث مارسيل، حينئذ، بكثير من الامتنان، وقال إن وجدة، بما فيها من حرارة الناس، وكرم أهل الشرق المغربي، جعلته يشعر بأن الوطن يمكن أن يكون أكثر من مكان واحد، وأن القلب حين يتسع يستطيع أن يحمل أكثر من انتماء واحد.
ما يميز علاقة مارسيل بالمغرب هو ذاك التماثل الخفي بين مساره الفني وبين الروح الثقافية المغربية نفسها. فهو، منذ بداياته، كان يبحث عن صوت يعيد للإنسان العربي كرامته الفنية، وينقذه من الغناء السهل، ويربط الموسيقى بالشعر، ويضع الفن في قلب الأسئلة الكبرى. والمغرب، بطبيعته الثقافية، بلد يجد الناس فيه راحة أكبر مع الفن العميق، مع العود، مع الشعر، مع الموسيقى التي لا تنفصل عن المعنى. ولذلك، وجد مارسيل هنا تربة تشبهه: جمهوراً يستمع لا بآذانه فقط، بل بوجدانه؛ ومؤسسات تقدّر العمل الجاد؛ ومثقفين يرون في الموسيقى جزءاً من مشروع نهضوي واسع، وليس مجرد زينة جمالية.
ولهذا، حين يمشي مارسيل في شوارع طنجة، أو يجلس في مقهى مطل على البحر، أو يشارك في ندوة في الرباط، أو يحيي حفلا في الدار البيضاء، يشعر بأنه ليس غريبا. والغريب أنه كلما تقدمت سنواته، ازدادت صلته بالمغرب رسوخاً، وازدادت لغته قرباً من اللهجة المغربية التي يلتقطها بخفة طفل يكتشف الكلمات. حتى صوته حين يخاطب الجمهور صار يحمل رنة مغربية محببة، كأنه يعيد إنتاج نفسه في بيئة جديدة تمنحه شكلاً آخر من الانتماء.
ولعل سر هذا الانتماء يكمن في شيء أعمق من السكن أو التكريم أو المحاضرات أو الاحتفاء الجماهيري؛ يكمن في الحياة اليومية التي يعيشها مارسيل هنا: جيرانه الذين يحيونه في الصباح، الأسواق التي يتجول فيها بهدوء، البحر الذي يستأنس به، البيوت البيضاء التي يحب النظر إليها، الأصدقاء الذين يزورونه، الطلبة الذين يسألونه، الموسيقيون الذين يتعلمون منه، والمغاربة الذين يتعاملون معه كما لو أنه واحد منهم. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي جعلته ينتمي بحق، وهي التي جعلت المغرب ليس محطة في حياته، بل فصلاً كاملاً له عنوان واضح: هنا، يجد الفنان سلامه.
ومع مرور السنوات، صار من الطبيعي جداً أن يقال: مارسيل خليفة المغربي. ذلك أن المغرب أعاده إلى ذاته التي ظل يحملها معه في المنافي والأسفار. أعاده إلى الطفل الذي كان يعزف تحت شجرة الصنوبر، وإلى المراهق الذي كان يرافق قصائد محمود درويش، وإلى الرجل الذي صار مدرسة في العود والغناء والتأليف. يكتب موسيقاه الجديدة، يزور أصدقاءه، يشارك في النقاشات الكبرى، ويستعد في كل مرة لاعتلاء المسارح المغربية التي لم تخذله يوما. وعندما يقف أمام الجمهور، يبتسم بتلك الابتسامة التي تجمع الحياء بالثقة، ثم يرفع العود، وكأنه يرفع العالم كله في يده، ويبدأ بالعزف كما لو أنه يكتب رسالته الأخيرة إلى العالم.

 

 


بتاريخ : 03/12/2025