في قلب مكناس، مدينة الزيتون وذاكرة الفكر والمعمار، وُلد حميد بناني عام 1940؛ رجل سيؤسس الإخراج السينمائي المغربي بأحرف من نار ونور. ليس حميد بناني مخرجاً سينمائياً فحسب، بل هو فيلسوف يحمل الكاميرا كما يحمل سقراط أسئلته المزلزِلة، وصوفـيٌّ يضيء بأفلامه مخيلة وذهنية الإنسان المغربي في ليلِ التقاليد البالية.
درس الفلسفة أولاً، فتشرّب روح التساؤل والشكّ الخلّاق، ثم هاجر إلى باريس في زمن كانت فيه السينما تُعاد ولادتها من رماد الحرب. تتلمذ في معهد الدراسات السينمائية العليا (IDHEC)، وكانت الموجة الجديدة الفرنسية تُعلن ثورتها: تروفو، غودار، شابرول، ريفيت وروهمر… أسماء كان يقرأ عنها في دفاتر السينما التي جعلت من «سياسة المؤلف» عقيدة سينمائية. في تلك السنوات، كان بناني يشاهد في صالات الحيّ اللاتيني «أنفاس متقطعة» و«هيروشيما حبي» و«الأربعمائة ضربة»، يمتصّ روح التمرّد السينمائي ويمزجها بروح لويس بونيويل الذي أحبه حباً عميقاً؛ ذلك الفنان الذي علّمه أن السخرية السوداء والحلم السريالي سلاحان لا يُقاوَمان في وجه السلطة والنفاق.
عاد إلى المغرب أواخر الستينيات، حاملاً هذا الإرث المزدوج: فلسفة الشكّ الديكارتي–السارتري، وسينما المؤلف التي تُعلي صوت الفرد فوق صخب الجماعة. انضم إلى الجيل الرائد الذي كان يصنع السينما خارج الأضواء الرسمية: أحمد بوعناني، مصطفى الدرقاوي، عبد المجيد الرشيش، محمد عبد الرحمان التازي، عبد العزيز الرمضاني… جميعهم كانوا يجتمعون في الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، ذلك المعمل السري الذي أنقذ السينما المغربية من الموت السريري بحماس النقد وروح الإبداع. هناك، في قاعات مظلمة بمدن الرباط والدار البيضاء وفاس ومكناس ومراكش، كانوا يعرضون أفلام الموجة الجديدة، والسينما السوفياتية، والنيورِياليّة الإيطالية، ثم يتناقشون حتى الصباح:
كيف نصنع سينما مغربية لا تُشبه أحداً؟
وكيف نكون مؤلفين في بلدٍ لا يؤمن بعدُ بالفرد؟
جاءت «وشمة» (1970) كإجابة عنيفة وشاعرية على تلك الأسئلة. فيلم صُوّر بكاميرا 16 مم، بميزانية زهيدة، وبجرأة لا تُضاهى. يُمسك بنا بناني ويرمينا في هوامش مكناس والدار البيضاء، حيث شخوص تحمل جُرحاً عميقاً في أرواحها. لا تحاكم أفلام حميد بناني أبطالها، بل تُسائل مجتمعاً بأكمله.
وفي «الطفل الشيخ» (2012) يعيد بناني كتابة تاريخ المقاومة الأمازيغية، لا كملحمة وطنية صاخبة، بل كمرثية فلسفية للإنسان الذي يقاوم الغزاة ثم يقاوم ذاته وتقاليده. وعلى هذا المنوال، ستأتي أعمال أخرى تسائل وتتساءل، وتُقيم حواراً مفتوحاً مع الهوية والحرية والقدر.
طوال مسيرته، ظل حميد بناني ذلك الفيلسوف–السينمائي الذي جمع بين تراث الموجة الجديدة، ودفاتر السينما، وبونيويل من جهة، وبين روح المقاومة السينمائية المغربية التي وُلدت في أحضان الأندية السينمائية من جهة أخرى. هو الجسر الحي بين فلسفة الحرية الوجودية وسينما المؤلف التي تُعلي صوت الفرد على جوقة التقاليد.
يستحق التكريم لأنه لم يصنع أفلاماً فحسب، بل صاغ أسئلة ما زلنا نعيش داخلها. ويستحق ماستر كلاس لأن كل لقطة من لقطاته درس في الشجاعة الفكرية والجمالية، ولأن صوته — صوت الفرد المتمرّد — لا يزال يُرجّ جدران مجتمع يتعلم، ببطء، أن يُصغي.
حميد بناني ليس مخرجاً مغربياً فحسب، بل ضميرُ أمةٍ تُبدع كي تتحرر، وشاعرٌ يصوّر بالنور ما عجز الفلاسفة عن قوله بالكلمات.
حميد بناني: شاعر الصورة وفيلسوف الوجود
الكاتب : إدريس القري
بتاريخ : 05/12/2025

