مهرجان مراكش الدولي للفيلم : فيلم « الست» : عظمة الأسطورة و هشاشة الكائن

شكل فيلم « الست» لمخرجه مروان حامد، في عرضه الأول ليلة الأربعاء بقصر المؤتمرات بمراكش قبل خروجه للصالات العالمية، حدثا مؤثرا و احتفالا ممزوجا بمشاعر الحنين لزمن باذخ من الإبداع و الحلم و الحماس.
الفيلم المنتظر من قبل جماهير الفن السابع في العالم العربي، يحمل بصمة تكريم جديد لأيقونة الغناء أم كلثوم التي أدت دورها منى زكي، من خلال استعادة مفاصل مهمة من حياتها، ترسخ حضورها العام و تأثيرها، و تفاعلها مع تقلبات التاريخ في مصر منذ 1906 حتى ما بعد نكسة 1967. حيث عمل مروان حامد صاحب تحفة « عمارة يعقوبيان» على تحريك كاستيغ مهم يضم عددا من وجوه التمثيل في مصر لتجسيد الشخصيات التي تقاطعت مساراتها مع الفنانة أم كلثوم، من ملحنين و شعراء و موسيقيين و سياسيين و إعلاميين.
الرؤية التي وجهت مروان حامد في هذا العمل، هي استدعاء حياة «الست» وهو اللقب الذي تعرف به أم كلثوم في مصر، لتشخيص التطور الثقافي و السياسي و الفني منذ بداية القرن العشرين حتى منتصف السبعينات تاريخ رحيل الفنانة. حيث يجتاز الفيلم عبر عقود متوالية حياة الفلاحين مرورا بالأجواء المخملية للأرستقراطية المصرية في عهد الملكية، وصولا إلى مصر جمال عبد الناصر و ثورة الضباط الأحرار.
نقطة التميز التي يختص بها العمل، هي أن معالجته لحياة الإيقونة أم كلثوم، اختلفت مع المعالجات الدرامية السابقة. حيث يستثمر بقوة المفارقات التي تشكل هذه الحياة بين حضور الفنانة العام و تأثيرها كمغنية ذات صيت و قوة، جعلتها مقربة من مركز السلطة سواء في عهد الملكية أو في عهد جمال عبد الناصر، وبين وضعها الذي تحياه مع نفسها كامرأة تعاني جسدها، و تحترق بالوحدة و الألم. لتكون بؤرة هذه المعالجة هي تأجيج الفارق بين عظمة الأسطورة المبنية في عيون الجماهير و قلوبهم، و بين الهشاشة التي تشكل واقعا شخصيا ينتشر في فضائها الخاص عندما تغادر المسارح و تعود إلى الفيلا التي تعيش فيها وسط جدران تصبح حاضنا للكآبة و الألم.
في هذا الفيلم تظهر وقائع شخصية لم يكن لها أن تظهر من قبل في المعالجات الدرامية السابقة. أم كلثوم التي تدخن، و المتسلطة في قراراتها الفنية و في معاملاتها المالية و التجارية التي تبدو فيها حريصة و صارمة. تعززها تفاصيل أخرى معروفة، ككتابة مذكراتها بيدها على الآلة الكاتبة، و مغامراتها في الصحافة بإنشائها بمالها الخاص مجلة تكتب فيها مقالات للرأي. ناهيك عن قصص الحب المجهضة مع الشاعر أحمد رامي، و أحد شخصيات القصر النافذة التي أججت عداء الملكة نزله ضدها، و توله الفنان القصبجي بها إلى حد إطلاقه النار ببيتها وقت خطبتها من الملحن محمد الشريف، وصولا إلى ملاذها الأخير، زواجها من طبيبها الخاص.
الهشاشة التي استثمر فيها الفيلم كثيرا، تتحقق بقوة في آثار المرض الذي أصيبت به، و الذي تصف أعراضه بألم كبير لطبيبها الخاص. حيث تقاسي عدم تعرفها على وجهها و تغير ملامحه، بعدما ضغط تضخم الدرقية على أعصاب العين، مؤديا إلى جحوظها و تورم الجفنين و هو ما يفسر النظارات السوداء التي تغطي وجهها في ظهورها العام، إضافة إلى تساقط شعرها، و أساسا توترها الدائم و انفعالها الذي أثر على علاقاتها، و خاصة مع الموسيقيين.
تظهر أم كلثوم الإنسانة في الفيلم، متحملة جسدها كمعاناة دفعتها إلى حد الامتناع عن الأكل. فسبب المرض تقاسي إحساسا دائما بارتفاع الحرارة، و هو ما عبرت عنه لطبيبها الخاص قائلة « الناس بتعيش في البرد، و أنا وحدي أعيش في حر دائم.» يرافق ذلك معاناة أخرى هي التعرق الدائم الذي يرهقها و يضيف ضيقا آخر إلى حياتها. إنها صوت مبهج للآخرين، وجسد مليء بالحرج و الضيق و الألم لصاحبته.
الوحدة، هي الكلمة المفتاح لحياة الأسطورة التي قضت نصف عمرها بلا شريك، رغم توالي قصص الحب والمعجبين و طلبات الزواج. فقد مات والدها رفيقها في بدايات نجاحها، و بعده شقيقها، و لم يكتب لها أن تتقاسم الفيلا الفخمة التي اشترت بثمار تألقها سوى مع وحدتها. أم كلثوم التي تظهر صارمة الوجه في حفلاتها و علاقاتها العامة، تصبح وجها تملأه الدموع في بيتها في مواجهة شفافة مع حقيقتها و هشاشتها، و هو ما عبرت عنه قائلة « لقد انتقلت من امرأة تملأ المسارح بحضورها، إلى امرأة ابتليت بالوحدة.» و في مقطع آخر تقول « يبدو أن الشقاء نصيب من يطلب المجد.» و بعد زواجها تتفاقم أعراض معاناتها إلى الحد الذي تقول فيه إلى زوجها بعد امتناعها عن الأكل « شبعت من الحياة، افضل أن أرحل هكذا، قبل أن أزاح بالقوة. «
الفيلم يوظف مادة أرشيفية مهمة، تجعله يتراوح بين الألوان علامة المعالجة المعاصرة و الأبيض و الأسود المؤشر السيميائي للتراجع في الزمن. لكن هذا الاختيار يحمل معاناة فنية، و لاسيما مع كثرة التردد للانتقال المفاجئ بين الأحداث السابقة و الأحداث اللاحقة. و النقطة التي ربما ستحسب ضد الفيلم، هو أن الممثلة منى زكي رغم أدائها المقنع، إلا أنها ظلت خلف وجه جامد من التعبير متخف خلف تضخم الماكياج بغاية تقريبها من ملامح أم كلثوم.
و يبدو أن آخر عبارة تظهر في الفيلم، تلخص العظمة التي يحتفل بها العمل. فهو إذ يظهر مشهد جنازتها بالملايين التي تشيعها من المحبين، تكتب هذه الجملة في أسف الشاشة» ماتت، و مازالت إلى اليوم تغني، و العالم مازال يسمع.»


الكاتب : عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 05/12/2025