فاس… كوارث تتكرر وقوانين «نائمة» لا تستيقظ إلا على وقع الانهيار

لم يعد انهيار البنايتين بحي المستقبل مجرد حادث عرضي في مدينة عريقة مثل فاس، بل أصبح علامة أخرى على اختلال يتكرر بوتيرة تدعو للقلق، فالعشرات من الانهيارات التي شهدتها المدينة خلال العقد الأخير تكشف أن الأمر لا يتعلق بقدر عمراني، بل بمنظومة تدبيرية متعبة لا تستيقظ إلا على صوت الصدمة.
وفق المعطيات الرسمية، تضم فاس أكثر من 1,200 بناية مصنفة هشة، كثير منها لا يخضع لأي تتبع تقني منتظم، رغم وجود منظومة قانونية واضحة، وعلى رأسها القانون 94.12 المتعلق بالمباني الآيلة للسقوط، حيث هذا الواقع يجعل من كل موسم أمطار أو كل حركة أرضية بسيطة مصدر خوف يومي، في ظل مقتضيات ذات القانون توفر آليات واضحة للكشف المبكر والتدخل الوقائي، إلا أن تفعيل المساطر ما يزال رهينا بمنطق «بعد فوات الأوان»، وتدخلات متأخرة، تأتي غالبا بعد وقوع الفاجعة لا قبلها. والدليل أن المدينة سجلت خلال العقد الأخير ما يفوق 70 انهيارا جزئيا أو كليا في مناطق مختلفة، من المرينيين إلى الجنانات ووصولا إلى حي المستقبل، تبدو هذه المساطر في فاس وكأنها كتاب جميل موضوع على الرف، نحتفظ به فقط لقراءته بعد أن تزهق الأرواح، حيث أصبحت الحاضرة الإدريسية تسير بثبات نحو إعادة إنتاج المأساة نفسها في الأحياء نفسها وبالطريقة نفسها، تعود معها الأسئلة ذاتها: هل خلل في القانون أم في من يطبقونه؟ وأي معنى لقانون لا يستيقظ إلا على دوي السقوط؟.
والحقيقة أن المشكلة ليست في النص، فهو واضح ودقيق، بل في زمن التدخل، الزمن الذي تحول من أداة للوقاية إلى أكبر ثغرة في المنظومة.
ففي النهاية، الانهيار العمراني ليس قدرا سماويا، بل نتيجة مباشرة لتراكم الإهمال، وما حدث في حي المستقبل لا يجب أن يكون مناسبة لنقل صور الحطام فقط، بل لحظة مراجعة شجاعة لمنظومة يفترض أن تحمي الناس قبل أن تنعى ضحاياهم.
في هذا السياق، يبدو أن المشكلة لم تعد مرتبطة بالقانون في حد ذاته، بل بإدارة الزمن: زمن اتخاذ القرار، زمن التحرك، زمن الإنذار… كلها أزمنة تتعثر، فتتحول من عناصر حماية إلى فجوات تبتلع أرواحا ومنازل.
فالسكن الآمن حق، والوقاية التزام، والمحاسبة ضرورة، وما بين الحق والضرورة، تضيع أرواح… فقط لأن المساطر بقيت حبيسة الأدراج.
الأمر الأكثر مفارقة، أن المشرع منح رئيس المجلس الجماعي صلاحيات واسعة في حالات الخطر الداهم، من الإخلاء الإجباري إلى الهدم إلى تسخير القوة العمومية، لكن هذه الصلاحيات لا تمارس غالبا إلا ضمن منطق رد الفعل، وليست جزءا من سياسة وقاية مستدامة.
وعندما يتأخر القرار الإداري، يصبح المشهد العمراني نفسه شاهدا على التقصير: مبان تتآكل أمام الأعين، وحّز حضري ينهار خطوة خطوة، وأحياء بأكملها تقترب من حافة الهاوية دون أن يتحرك أحد بالسرعة المطلوبة، والبيوت تتدلى على المقبرة وكأنها تقترب منها يوما بعد يوم، في مشهد يختصر العلاقة المروعة بين الفوضى العمرانية والمصير المحتوم في تجسيد جلي لخيبات السياسات العمرانية، وتراكم الإهمال، وغياب المحاسبة.
لقد تحول الإهمال العمراني إلى مشكلة بنيوية، تتقاطع فيها هشاشة السكن مع ضعف المراقبة، وتتغذى من تراكم لا يخص المؤسسات فقط، بل يمتد إلى منظومة قيم تحول التغاضي إلى ممارسة عادية، وتشرعن التردد الإداري كأنه خيار آمن.
وعليه، أعتقد أنه أصبح من الواجب، أخلاقيا وسياسيا وقانونيا محاسبة كل من شارك أو سهل أو تغاضى عن تحويل هذه الأحياء إلى مقابر شاهقة، من مهندسين ومقاولين ومسؤولين ومنتخبين، ضمانة لعدم تكرار الفاجعة وحتى لا يصبح الركام هو اللغة الوحيدة التي نتقن قراءتها والبكاء على أطلالها.
إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد فساد إداري أو اختلال قانوني؛ إنه أزمة قيم مكتملة الأركان، تتغذى من معادلة اقتصادية واجتماعية مختلة: قلة تراكم الثروة بسرعة، وغالبية يزداد وضعها هشاشة تحت ضغط فوضى التسيير. وهكذا يتحول زمن التدخل، المفروض أن يكون الدرع الواقي، إلى نقطة الضعف القاتلة… ونشيد منكسر فوق أنقاض فاس.
إن النقاش اليوم ينبغي ألا ينصب على تفاصيل انهيار هنا أو هناك، بل على سؤال أعمق: لماذا تفشل المدينة، كل مرة، في تحويل القانون إلى ممارسة؟، ولماذا يبقى المواطن البسيط هو الحلقة الأضعف في معادلة العمران؟.
فحماية حياة السكان ليست رفاهية قانونية، بل واجب عمومي وأخلاقي، والمحاسبة ليست نزعة انتقام، بل شرط أساسي لاستعادة الثقة. فالمدينة بمكانة فاس لا تستحق أن تبقى رهينة مساطر «نائمة» لا تصحو إلا على وقع الدمار.
اكيد أن مدينة فاس مع الوالي الجديد، خالد ايت الطالب، في حاجة إلى انتقال حقيقي من رد الفعل إلى ثقافة الوقاية، من تبرير التأخر إلى إدارة زمن ذكية تتدخل قبل الانهيار لا بعده، عندها فقط سيصبح العمران جزءا من كرامة الإنسان، لا شاهدا على هشاشته.


الكاتب : حسن عاطش

  

بتاريخ : 12/12/2025