المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي: قيادة مرحلة بمنطق الكفاءة والديمقراطية الداخلية

عبد السلام المساوي

في لحظة سياسية دقيقة، تتقاطع فيها أزمة الثقة في العمل الحزبي مع تعقّد التحولات الاجتماعية والتقنية، ينعقد الاجتماع الأول للمجلس الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ليؤكد أن استكمال الهياكل التنظيمية ليس مجرد إجراء داخلي، بل فعل سياسي يعكس رؤية الحزب لدوره وموقعه في المرحلة المقبلة. وقد شكّلت كلمة الكاتب الأول، إدريس لشكر، إطارًا مرجعيًا لفهم منطق تشكيل المكتب السياسي، باعتباره قيادة مرحلة، لا مجرد هيئة لتدبير ولاية تنظيمية، ورافعة لتجديد الفعل الحزبي على أساس الدمقرطة الداخلية، والكفاءة، والتنوع، والتشبيب، في توازن واعٍ مع الاستمرارية النضالية.
من تدبير الاختلاف إلىترسيخ القيادة الجماعية

أكد إدريس لشكر، في كلمته خلال الاجتماع الأول للمجلس الوطني، أن الحزب “يدخل هذه المرحلة بروح قائمة على التوفيق بين الاختلاف والتوافق، والتنافس المشروع، والزهد في المواقع”، وهو تأكيد يعكس تصورًا سياسيًا متقدمًا للقيادة الحزبية، يضع العمل الجماعي في صلب الفعل السياسي، ويحوّل الاختلاف الداخلي من عنصر توتر إلى رافعة للنقاش والتكامل. فالمكتب السياسي، وفق هذا المنظور، لا يُبنى بمنطق الغلبة أو المحاصصة، بل كأداة لتدبير التعدد داخل وحدة المشروع الاتحادي، بما يعزز التماسك الداخلي دون إلغاء التنوع.
وقد سجل الكاتب الأول أن الاتحاد الاشتراكي استطاع، بفضل هذه الروح الجماعية، “تعزيز موقعه كقوة سياسية فاعلة ومؤثرة في المشهد الوطني، وقادرة على مواجهة التحديات المقبلة”، في إشارة إلى أن الحزب لم يعد يكتفي بالحفاظ على حضوره التاريخي، بل يسعى إلى تقوية موقعه كفاعل سياسي مسؤول، قادر على التفاعل مع التحولات الوطنية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية بروح اقتراحية، لا بمنطق رد الفعل. ويعكس هذا التوجه وعيًا بأن القيادة الحزبية اليوم مطالبة بتدبير التوازن بين الاختلاف الداخلي ووحدة الموقف السياسي، في سياق وطني يتطلب وضوحًا واستقرارًا في الرؤية.
ويكتسي هذا التشكيل، في هذا السياق، بعدًا رمزيًا وتنظيميًا بالغ الدلالة، باعتباره تعبيرًا عن وعي الحزب بحساسية المرحلة الداخلية، وحاجته إلى قيادة جماعية قادرة على الإنصات، والإقناع، وتدبير الاختلاف دون كسره، وإعادة الاعتبار للعمل الحزبي كفضاء جماعي تُبنى فيه القرارات عبر النقاش والمسؤولية المشتركة، لا منطق الاصطفاف أو الغلبة.
حيثيات الاختيار: من التمثيل الشكلي إلى الوظيفة السياسية

في الشق التنظيمي من كلمته، حرص إدريس لشكر على توضيح منطق اقتراح تشكيلة المكتب السياسي واستكمال هياكل الحزب، مؤكدًا أن ذلك تم “بروح من التمحيص والتروي”، وفي احترام تام للأنظمة الحزبية. غير أن هذا التوضيح لا يكتسب أهميته من بعده الإجرائي فقط، بل من دلالته السياسية العميقة، حيث أقر الكاتب الأول بأن الآليات التنظيمية، رغم مشروعيتها، “لا تكفي لوحدها لتمثيل جميع الكفاءات التي يزخر بها الحزب”، وهو اعتراف يعكس حجم الرأسمال البشري الاتحادي، ويؤكد أن الاختيار القيادي بات محكومًا بمنطق القيمة المضافة، لا بمنطق التمثيل الشكلي.
إن ما يميز تركيبة المكتب السياسي المقترحة هو هذا التحول الواضح من سؤال “من يمثل من؟” إلى سؤال أكثر جوهرية: من يستطيع أن يؤدي أي وظيفة سياسية في هذه المرحلة؟ فالحزب يوجد اليوم أمام تحديات مركبة، تتطلب قيادة قادرة على الترافع البرلماني، والتأطير التنظيمي، والتواصل السياسي والإعلامي، وصياغة البدائل، ومواكبة التحولات السياسية والتقنية والعلمية. ومن هذا المنطلق، أكد لشكر أن الاختيارات المقترحة حرصت على إدماج أسماء “تتوفر فيها قيمة مضافة وقدرة على مواكبة التحولات الراهنة وتطوير الأداء الحزبي”، في إشارة واضحة إلى أن المسؤولية داخل المكتب السياسي لم تعد امتيازًا تنظيميًا، بل تكليفًا سياسيًا مرتبطًا بالكفاءة والاستعداد للاشتغال.
كما أن التنوع الذي طبع هذه التركيبة، من حيث التجارب والمسارات والاختصاصات، يعكس إرادة واعية في ترسيخ دمقرطة الاختيار الداخلي، وتجاوز النماذج المغلقة للقيادة الحزبية. فالمكتب السياسي، وفق هذا التصور، ليس هيئة متجانسة بشكل مصطنع، بل فضاء لتكامل الخبرات وتعدد زوايا النظر، بما يسمح بإنتاج قرار سياسي أكثر نضجًا وواقعية، وقادر على الاستجابة لتعقيدات المرحلة.
التشبيب والاستمرارية: قيادة مرحلة وتطوير
أدوات الاشتغال

لم تفصل كلمة الكاتب الأول بين اللحظة التنظيمية الراهنة والآفاق المستقبلية، بل ربطت بينهما ربطًا عضويًا، حين أكد أن “الرهان الأساسي يتمثل في تقوية البناء المؤسسي للحزب وتطوير أدوات اشتغاله بما ينسجم مع التحولات السياسية والتقنية والعلمية”. هذا التأكيد يعكس وعيًا بأن الفعل السياسي لم يعد يُدار فقط عبر الخطاب أو الحضور المؤسساتي، بل عبر امتلاك أدوات التحليل، والتنظيم، والتواصل، في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية وتتغير فيه شروط التأطير السياسي.
في هذا السياق، يبرز التشبيب كخيار استراتيجي، لا باعتباره إحلالًا آليًا أو قطيعة مع التجربة، بل بوصفه تجديدًا عقلانيًا يهدف إلى إدماج طاقات جديدة قادرة على الاشتغال بلغات العصر، وفهم تحولات الرأي العام، والتفاعل مع قضايا الشباب والفضاء الرقمي، في تكامل مع خبرات راكمت معرفة دقيقة بتوازنات الدولة والمجتمع. وهو ما يجعل من المكتب السياسي هيئة تجمع بين الذاكرة السياسية الحية والنفس الجديد، في توازن ضروري لضمان الفعالية والاستمرارية.
ويتعزز هذا المنحى من خلال الحرص على معايير الكفاءة والاستقلالية ونزاهة الضمير في اقتراح هيئات الحكامة، من قبيل اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات، ولجنة مراقبة المالية والإدارة والممتلكات، إضافة إلى رئاسة ومقرري اللجان الوطنية الدائمة، وهي معايير تؤكد أن الدمقرطة الداخلية لا تكتمل دون ربط المسؤولية بالمحاسبة، والقرار بالشفافية، والعمل الحزبي بالقيم.
خلاصة الأمل فيالمستقبل: قيادة تُراكم الثقة وتبني البديل

إن تشكيل المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، كما قُدّم في كلمة إدريس لشكر، لا يُختزل في استكمال هياكل تنظيمية، بل يعكس اختيارًا سياسيًا واعيًا يراهن على قيادة مرحلة دقيقة، وعلى تحويل الكفاءة والتنوع والتشبيب إلى أدوات فعل سياسي حقيقي. وهو رهان يستمد قوته من التراكم النضالي للحزب، ومن وعيه بضرورة تجديد أدواته وخطابه، دون التفريط في هويته وقيمه.
وفي زمن تتراجع فيه الثقة في السياسة، ويشتد فيه الطلب المجتمعي على بدائل ديمقراطية ذات مصداقية، يراهن الاتحاد الاشتراكي، من خلال هذا المكتب السياسي، على استعادة دوره التاريخي كقوة اقتراح ومعارضة مسؤولة، قادرة على الإنصات لنبض المجتمع، وصياغة مشروع تقدمي يعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، والكرامة. فنجاح هذا المكتب السياسي لن يُقاس فقط بانسجامه الداخلي أو بتوازن تركيبته، بل بقدرته على تحويل هذا الانسجام إلى مواقف جريئة، ومبادرات سياسية ملموسة، تُعيد الثقة في الفعل الحزبي، وتُقنع الرأي العام بأن الاتحاد الاشتراكي ليس فقط حزب ذاكرة، بل قوة بديلة قادرة على المساهمة في فتح أفق ديمقراطي واجتماعي جديد للبلاد.

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 19/12/2025