«جريمة في قطار الشرق السريع » .. الزخرف السينمائي المصطنع Murder on the Orient Express

يعمد بعض المخرجين في دخول عمليات للتحدي والاستجابة وإلى خوض غمار إعادة إنتاج وإخراج أعمال فنية خرجت للنور قبل أربعين عاما…كما هو الحال في فيلم « جريمة في قطار الشرق السريع « (113 دقيقة/2017/ ميزانية الفيلم 55 مليون دولار/ نوع دراما/ جريمة) للمخرج والممثل كينيث براناه. ما الجديد الذي يحمله الفيلم عن النسخ الثالثة السابقة لسنوات1974/ 2001/2010/ ؟ ولماذا هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر على المستوى الفني؟ وما الذي يرغب أن يظهره المحقق / المخرج في هذا الفيلم؟ وهل بالفعل ظلت روح الكاتبة أغاثا كريستي حاضرة في الفيلم؟
من الرواية إلى السينما

في الأعمال الأدبية للكاتبة أغاثا كريستي يحضر مشهد الجريمة والتفاصيل الدقيقة معها مصحوبة بأنفاس من التشويق والإرباك المتعمد والقرائن التي يتتبعها القارئ من خلال متعته لقراءة الرواية يصاحبها نقطة الانطلاق التي تتغير وتتغيا الوصول إلى الحقيقة باختراق المكان وجسد البطل ورونق السرد… كيف سار قطار المخرج كينيث براناه… في تقفي هذه تفاصيل الجريمة أمام روعة المشهد الطبيعي وروعة ديكورات القطار البخاري؟ هل غلب الزخرف المصطنع وأنماطه الديكورية والمشهدية في قتل تفاصيل الجريمة المحبوكة بشكل جيد وارتكاب « جريمة « في حق الكاتبة أغاثا كريستي؟
في هذا العمل السينمائي يلاحظ نوعا من التسرع في تقصي وقائع الجريمة والخروج من هذه الغرفة والدخول إلى أخرى والتجول بين عربات القطار لمحقق مزهو بنفسه و بشارب كث وطويل مكون من سبع طبقات.. في الرواية سؤال قصي كيف تمت دراسة الجريمة قبل التنفيذ وكيف تم تنفيذها…وعبر المثن الحكائي للرواية نقر بروعة الحبكات المتوالية والمحكية بشكل دقيق وبابتكارية لم يستطع المخرج أن يخطو بذات الإيقاع وضاعت التفاصيل في الاستجوابات المملة والطويلة التي حاول المخرج أن يقلل من رتابتها بنقلها من داخل الغرف وعربات القطار إلى أرض القطار بنرفزة وتوثر المحقق الذي يغلب عليه الجانب الانفعالي أكثر من رصد التفاصيل الدقيقة.
قطار الدرجة الأولى

في شبه انتماء طبقي صريح يمكن اعلان قطار الشرق البخاري والأنيق بانتمائه شكلا ومظهرا إلى الطبقة الأرستقراطية حيث نجد نسيجا من الأميرات والأطباء والأثرياء والفنانين معبرين عن انتمائهم الطبقي وأن هذا القطار البخاري مطبخا وديكورا وحراسا وخدما… من العيار الثقيل حيث لا مجال للغوغاء والدهماء بامتطائه وأن مركباته الست تتوزع بين خدمة هؤلاء الضيوف الذين ينتمون للطبقة البورجوازية حيث تحتدم البرتوكولات وأنماط الاحترام والتقاليد الأرستقراطية..لكن السؤال الذي يطرح هل مشاركة الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا كانت ستؤثر على سير الأحداث أم هو إخلاص تام للرواية. نقدم ملاحظة أن المخرج أدرج مقدمة الفيلم بالقدس عام 1934 والتي لا علاقة لها بالرواية.
الشرق المتخيل والغرائبي:
يقدم المكان في فيلم « جريمة في قطار الشرق السريع «من خلال ثلاثة أمكنة.. القدس عام 1934 حيث تبدو متسامحة يظهر فيها حائط المبكى مكانا يتسع لكل الديانات… وحيث الأزقة على حالها تعيش حالة من السلم والسلام. ويظهر الطفل الصغير المسلم يقوم بعملية السخرة للمحقق دون خوف متجولا في أزقة القدس جريا لقضاء مأربه في شراء البيض. كما يظهر المحقق أمام ميناء البحر مستمتعا بالبحر والسفينة التي ستنقله إلى اسطنبول.
تظهر اسطنبول ومحطة القطار فيها غاصة بالمسافرين وبالزوار ويقوم أحد سكانها بعملية تحرش تقابل بمواجهة صارمة من قبل الراهبة بينلوبي كروز وبصده بقوة. كما يصف مرافق المحقق مرافقته بأنها عاهرة رخيصة في إشارة إلى نساء الشرق والتركيات خصوصا.
يضيق المكان قليلا لتصبح عربات القطار المكان الذي يحتضن الأحداث.. عربات من الدرجة الأولى حيث يوجد جوني ديب في المحطة الثانية وبعد تعرض القطار لعاصفة ثلجية قوية مدرجا بدمائه وبطعنات متكررة وقاتلة في غرفته أمام ذهول الجميع وبداية متوالية جديدة في الفيلم. يعتبر القطار بحد ذاته شخصية فيلمية قائمة الذات يعج بالأحداث ويحمل معه نفس الشرق المتخيل والغرائبي وتصور المخرج لأبطاله كما تتصور أغاثا كريستي لنساء ورجال الشرق. هذا يذكرنا بفيلم لورانس العرب وهو يمتطي قطار الشرق كقائد للثورة العربية في الكثير من ملامحه وغضبه…
الحضور الهامشي والباهت

من الطرق التصويرية والارضائية لطينة النجوم المشاركين في الفيلم هو مرور الكاميرا بين جموع شخصيات الفيلم بتوقفها ببطء على الوجوه والأجساد وحركاتهم واستمرار سيرها..هذه الطريقة جربها المخرج الايرلندي في أكثر من مناسبة في محاولة منه لإرضاء النجوم المشاركين حيث تخترق الكاميرا عربة المطعم الفخم وهم يناولون وجبتي الغذاء أو العشاء أو حينما يجتمعون ليعلن الخبر الحزين عن وقوع جريمة بالقطار ويخيم الصمت على الجميع ومنهم من يكتفي بإيماءة أو بلمس شعره أو بكلمة بينما الكاميرا لا تتوقف لأن عدد الشخصيات المشاركة في الفيلم والمتهمة هي 12 شخصية… بنفس العدد وفي مدخل للنفق الذي وقف القطار أمامه تصطف 12 شخصية جالسة في كراسي وأمامهم المحقق يخبرهم من ارتكب الجريمة ومن نفذها ويستفز هذا عن مساهمته ويستفز هذه عما قامت به. في هذا المشهد تحضر جميع الشخصيات في شكل جماعي متساوين الجلوس و في فعل الجريمة المقترف موجها لهم تهمة القتل ومعها الأدلة بدقة المحقق الذي ينشد الدقة في كل شيء حتى في قياس تساوي بيضتين.
هذا الحضور الكبير لشخصيات فيلمية فاقت 14 شخصية جعلت المخرج يلتجئ إلى طريقة التصوير هذه.. كذلك ضيق المكان الذي لا يتسع كثيرا والنص الأصلي الذي منح للشخصيات سمة الغموض وقليل من الإفصاح والإجابات السرية ومعها تتعدد العلاقات السرية المصاحبة التي تكشفها الكاتبة لاحقا ويحاول أن يصورها المخرج بالأبيض والأسود كنوع من المحاكمة وعن فترة من فتراتهم السوداء وعما اقترفوه وما قام به الضحية في حقهم. كما يصور جوني ديب رجلا مخادعا يهدد الآخرين ويحمل سلاحه معه ومعه سكرتيره الخاص وخادمه وكاتم أسراره (ديريك جاكوبي)… كما يحمل ندبا على وجهه في إشارة لماض عنيف و لعلامات شر تسبقه وفي غرفته مدرجا بدمائه بطعنات متعددة كفعل انتقامي وبالقرب منه مسدسه.
بين النجاح والفشل

تجربة انجاز فيلم رابع عن نفس الفيلم وانطلاقا مستوحى من نفس القصة الأولى واستنساخ التجارب الفيلمية السابقة في صور مبتكرة عمل فيه الكثير من التحدي والمغامرة.. مغامرة النجاح ومغامرة الفشل… النجاح أن المخرج حقق على مستوى التصوير نجاحا بلقطات متنوعة من الأعلى نحو الأسفل.. لقطات جانبية.. لقطات تخترق القطار والمسافرين.. لقطات فيها الكثير من الإبداع .. يصاحبها ديكور متقن ومتفنن فيه ولكن بين التصوير وجمالية الديكور ضاعت الحكاية الأصلية للفيلم والتشويق والإثارة المنتظرة والممل خلال أكثر من 25 دقيقة على انطلاقة الفيلم.
كما أن أكثر من 70 في المائة من مشاهد الفيلم يسيطر عليها الممثل / المخرج في حضور طاغ على كل الوجوه وبجرعات من الانفعالية المبالغ فيها.

هل قتل المخرج / الممثل الفيلم؟

المخرج الإيرلندي كينيث براناه.. مهووس بالنفس الشكسبيري والذي يصوره الفيلم كمحقق شهير تستهويه الدقة في كل شيء. حاول أن يمزج في هذا الفيلم بين التمثيل والإخراج ولكن حضوره القوي همش باقي الشخصيات الفيلمية.. نكاد نشعر في بعض المشاهد أن الكاميرا ترافقه في كل ترحاله وأننا أمام فيلم تسجيلي وليس أمام فيلم روائي.. هذا الحضور في اللقطات وفي العديد من المشاهد بملئ الشاشة بوجهه وبشاربه الكث في لقطات قريبة جدا أضر كثيرا بالفيلم وجعل باقي شخصيات الفيلم ثانوية باهتة بدون حضور قوي فقط معالمهما ومظاهرها الأرستقراطية هي الأكثر حضورا في هذا القطار من الدرجة الرفيعة.
الشرق بكرنفال النجوم

ينطلق قطار الشرق حاملا عددا كبيرا من المسافرين وحاملا عددا كبيرا من الأسرار والتوقعات والتكهنات..شفافية نوافذه تخفي جرم القتل العمد وتواطئا كبيرا بين شخصياته واعتماد فكرة التقية. قطار من الدرجة الأولى ومعه أحداث تحبك في الدهاليز ويخطط لها مسبقا.
تعج مقصورات قطار الشرق السريع بشخصيات باذخة تنتمي إلى عوالم أرستقراطية.. صائدة الأزواج في عجرفيتها ووقاحتها ميشيل فايفَر ومن خلال الصراخ تحاول إبراز الحزم الذي تتمتع به
كما أدت (بينلوبي كروز) دور مبشرة إسبانية تظهر في احدى المشاهد أنها تعنف من قبل الضحية جوني ديب. كما تظهر (دايزي ريدلي) في دور مربية بريطانية مُفعمة بالحيوية.
هناك أيضا أميرة روسية متغطرسة (جودي دَنِش) وخادمتها الألمانية (أوليفيا كولمان) بالإضافة إلى أستاذ جامعي نمساوي عنصري (ويليام دفاو). بالإضافة إلى عدد من الشخصيات كثيرة تظهر هنا وهناك.
جمع هذه القائمة الطويلة من النجوم في فيلم واحد وحضورها الرمزي هو دعم تجاري للفيلم ولتسويقه لأن هناك من هؤلاء النجوم من استغلت شهرته وصورته في الفيلم و لم ينطق جملة كاملة وبالتالي طغيان هذا الكم الهائل من النجوم وتسويق الفيلم عن أودراهم الأثيرة يمنح الانطباع عن حجم الإرضاء داخل مجريات الفيلم.
على العموم لم نر الشرق كما هو في الرواية ..شرق تغلب عليه الجبال المكسوة بالثلوج البيضاء وباللقطات البانورامية الرائعة و بوجوه باردة وليس الشرق الدامي الذي يغرق في بحور من الدم والأشلاء…


الكاتب : عبدالله الساورة

  

بتاريخ : 31/03/2018