« الغربالُ» لمخائيل نعيمة بين التـَّذوق والمُقايسَة

« الغربالُ « لمخائيل نـُعيْمة كتابٌ في النـَّقد ، أو كما يعتبره فيصل درَّاج بيانا أدبيا حافظ على حقيقته منذ بداية العشرينيات من القرن الماضي . ومن خلاله ، يسعى الكاتبُ إلى إماطة اللثام عن القوانين التي تنتظم عندها نظرية الأدب . فالاستمتاع بالخطاب الأدبي ، حسب نعيمة ، نابعٌ من حجم الانفتاح والتفاعل ، الذي يؤسسه المبدعُ مع قـرَّائِه، فضْلا عن تعاقده الصَّريح ، القائمٌ على حصول المتعة الأدبيَّة . إلى جانب ذلك ، فاللغة والأسلوب ، مثلا ، يجعلان من مُتعة الخيال الأدبي ركنا أصيلا في بناء الأثر الإبداعي ، غير أن هناك عناصرَ أخرى ، تنضافُ إلى جانب ملكة الخيال ، تـُبَوصَل بِحسب حاجاتنا الجسديَّة والروحيَّة . فاختيار المعاني والألفاظ ، ذات الأجراس الموسيقيّة الرَّنَّانة ، لـَكفيلة بتحقيق هذا التميُّز؛ الذي يطمحُ إليه المبدعُ في كتاباته الإبداعيَّة .
ومن الطبيعي جدا أن تكون للمقاييس الأدبيَّة يدٌ طولى في غربلة الإبداع والتمييز بين الصالح و الطالح منه، علاوة على بحثها الدؤوب عن المعايير السليمة ؛ لتذوق الأثر الأدبي . غير أن هناك إبداعات خلَّدها التاريخ في الثقافة الإنسانيَّة ، فأصبحت في منأى عن عيون الغربال الذي أسسه مخائيل نعيمة . فلا ضير أن تكون لهذا الضرب من الإبداع ثوابتُ قارة ، وقلاعٌ حصينةٌ ومنيعة تضمن له دمغة ُ الاسْتمراريَّة والحضور الفعلي العابر للأجيال ، حتى أصبحت بالفعل نصوصا مهاجرة ؛ تخترق كل البُنى الثقافيّة . فمن بين أهم هذه المرتكزات ، التي يجب أن يتوفر عليها الإبداع ، كما أشار إليها « الغربال « ، نجد :
الموسيقى التي يصدح بها الوزنُ و الألفاظ ؛
الجمال النابع من الصيغ البديعيَّة ؛
الإظهارُ والاِستبانة ُالمتعلقة بالبيان.
ونتيجة لذلك ، فهذه المقاييس ، حسب غربال نعيمة ، تـُكسب الأثرَ الإبداعيَّ مناعة خاصة ؛ يقاوم بها صُروفَ الزمن ومتغيراتِه . ولهذا السبب ، نجد إبداعات قد اخترقت كل الأزمنة الثقافيّة ، ومازالت تحتفظ ببهاء سُلطانها ومَيْعة نضارتِها ؛ بل أصبحتْ أكثر حداثة من إبداعاتٍ تعيشُ بين ظُهْرانينا اليوم .
فمن منا لم تُلْفِحه سيرة عبد المجيد بنجلون الذاتيَّة « في الطفولة « ؟ أو من منا لم يُعجب ويُصدم بواقعيَّة محمد زفزاف في مجموعته القصصيَّة « العربة « ؟ أو من منا لم يترنحْ بغنائيَّة قصيدة « القدس» من ديوان « الفروسيَّة « لأحمد المجاطي ، عندما خاطت لازمتُها ـ « أين نموتُ يا عمة ؟ « ـ سَدَى القصيدة ؟
وتبعا لذلك ، فإن التجدُّدَ التلقائيَّ ، من داخل الأثرِ نفسِه ، يفجرُ ينابيعَ الاستمراريَّة في الزمان والمكان ؛ فضلا عن تجاوزه المستمر للأشياء المبتذلة و البديهية . إلا أن الإعتماد على اللغة البيانيَّة المتوترة تسمو بالأثر الأدبيِّ نحو تأسيس ذاك الخطابِ المشتركِ والعابر لكل الثقافات . فالعبورُ جسرٌ آمنٌ ، شريطة أن تتحقق فيه المحافظة على الجوهر، والتكيف ونواميسَ الواقع الجديدِ .
إن المقاييسَ التي وردت في كتاب « الغربال « لمخائيل نعيمة ، اخترقت كل البُنى النقديَّة في الثقافة العربيَّة ، سيما وأن ظهورها راصفَ موجة البنيويَّة ، باعتبارها الدراسة العلميَّة للأدب ؛ التِي اجتاحتْ أوربا بداية القرن العشرين . فما كان للنقد العربي إلا أن يجعل منها وصيدا آمنا ، نحو الكشف عن جوهر الإبداع . فالدكتورُ محمد مندور ، في كتابه « الأدب و فنُونُه «، كان من رعيل المثقفين العرب ، الذين تنفسوا عبق هذه الموجة المعرفيَّة . فطبَّق خصائص الغربال ومقاييسه الصَّارمة على الشعر العربي ، مع الاحتفاظ بقليل من إرث أستاذه طه حسين عميدِ الأدب . وفي هذا السياق ، زاوجَ مندورُ بين الشعر العربي والشعر الفرنسيِّ ، مبرزا أهم المرتكزات الصَّوْتيَّة ، التي تجعل من الإبداع عريشا ممتدا ، تستظل تحته كلُّ الحساسيات الإبداعيَّة .
وفي هذا المسعى ، فما المقاييس الأدبيَّة التي جاء بها مخائيل نعيمة ، سوى مجرد بحث عن هذا المشترك الإنسانيّ الذي يسكن الإبداع . فمن وراء الغيوم شمسٌ ساطعة ٌدائما ؛ فالجوهر الإنسانيُّ واحدٌ ، وإن اختلفتِ الأصولُ والفروعُ . فنحن دائما بحاجة ماسَّة إلى الجمال ، وبحاجةٍ ماسَّة إلى النور ودفء الشمس ؛ وإن تلوَّنتِ الفصولُ وتبدلتِ المنازلُ .


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 29/05/2018