بأصوات متعددة : مخلب النورس
لحسن العسبي laassibi01@gmail.com
مثلما يفعل النورس، حين يوقع على الرمل أثره بين طيرانين، بجناح يظل مفتوحا للريح (الذي هو في المحصلة لعب مع الحياة)، يقترف الشاعر مبارك الراجي قصيدته، التي هي عنوانه الأبقى لممارسة الحياة. هو لا يكتب الشعر، بل الشعر ينكتب من خلاله. إذ كما لو أن هناك معان سادرة في سديم الوقت، ثاوية في العدم، وهي التي تختار أهلها من أبناء الحياة الطيبين، كي تخرج إلى الوجود.
بهذا المعنى، فالشعر ليس ترفا عند الراجي، بل هو معنى كينونة كاملة. بل إنه حتى القدر (ذاك المجهول عنوانه في الماوراء)، اختار أن يجعل سيرة الرجل، كتابا لمعنى المقاومة من أجل الجميل في الإنسان:
أن يظل، رغم كل القبح الضاج في صلافة الحياة، بقلب طفل.
ومنذ عرفت الصديق مبارك الراجي، ونحن لا نزال فتية، زغب الحواصل بالدارالبيضاء، بحي «قرية الجماعة» (كنت دوما مغرما بهذا الإسم، لأنه يصالحنا مع حقيقتنا المغربية في ذلك الزمن)، كان يمشي على الإسفلت بقلب الطين. كانت تصلني، عبر صداقات مشتركة، عناوين حكمه البليغة أمام الموت. كان الموت، ذلك الحصاد الفريد الذي مطامره في كل جهة (بلغة سيدي عبد الرحمان المجدوب)، قد شحذ فيه باكرا مخلب المقاومة من أجل أن يكون هو هو. كائنا لا يكذب على نفسه أمام مرآة الحقيقة. الحقيقة الكامنة في أنه مفرد أمام العراء والخواء. وأن لا سماء له، غير سماء اليتم، تلك التي تعلمه مدى هشاشة الإنسان ليس فقط أمام امتحان المروءة، وأمام معنى التضامن، بل فقط أمام معنى الإنصاف، وأن لا ينقلب إلى ذئب في غابة المصالح. وحين توفيت قريبة له (أعتقدها شقيقته)، أذكر كيف أطلق ضحكة مجلجلة، ليطلق حكمة، ظلت عنوانا عنه: «أختي لم تمت، أختي دخلت، فقط، الأبد». ولم ينزوي في محراب الدمع، سوى حين أصبح فريدا أمام خواء الوجود.
مبارك الراجي، طفل ممتلئ بالأبقى، لأنه ضاج بالإنسان، ذاك التي تشحذه التجربة. ومنذ أول تعارفنا، البعيد، الذي هو بعمر كامل (أعرفه منذ 40 سنة)، ظل مختلفا بأنه لم يكن ممن يلعب في أزقة الحياة، سوى عبر لعبة التأمل والكتابة والسؤال. وفي ما بعد، وجدت أنه لم يكن يتيما تماما، لأن له إخوة في عالم الكتابة والأدب، ممن عددهم في كتابه الرائق، العميق المفكر والناقد جورج باطاي «الأدب والألم» (الصادر عن دار غاليمار سنة 1957)، وهم: الشاعرة الإيرلندية إيميلي برونتي، والشاعر الفرنسي بودلير، والناقد جول ميشللي، والشاعر والرسام الإنجليزي ويليام بلاك، والأديب جورج ساد، والروائي مارسيل بروست، والروائي الفيلسوف فرانز كافكا وأخيرا المسرحي الثائر جون جنيه (دفين ربوة على البحر بالعرائش المغربية). ولا أتردد في أن أضيف إليهم الأديب الفيلسوف أبو العلاء المعري، ليس فقط في «لزومياته» أو «رسالة الغفران»، بل أساسا في رائعته «الصاهل والشاحج»، تلك التي فيها محاورة بين حصان وبغل ، الضاجة بالحكم التي يعلمها العراء أمام الحياة، من قبيل «كل امرئ يغدو بما استعد»، وأنه «لو ترك القطا ليلا لنام»، وأنه «قبل الرماء تملأ الكنائن، فماذا يصنع من لا كنانة له ولا عدة عنده؟». إنه يعول على مخلبه.
ومبارك الراجي، مثل كل نورس، لم يعول أبدا سوى على مخلبه. المخلب الذي لا يجعله مفترسا في غاب، بل مبدعا يرسم المعاني في كتاب الحياة، من حيث أنه يوبخ العالم، كي تكون رسالة للعالمين. لهذا السبب فحين أقرأ قصائده، أجد أنها تغني إنسانيتي، لأنها توقظ في داخلي فانوسا للمعرفة، يقودني إلى دهاليزي، ويحررني كي أعود من أكون، أنا عاريا أمام كينونتي. ويا له من دور يقوم به الشاعر هنا، أنه يحرنني مني، من حيث أنه يصالحني معي. وأكاد أستشعر الراجي، دوما، من خلال قصيدته، كما لو أنه يعبر هناك في جغرافية المعاني البكر للكينونة، مثلما يعبر الأنبياء أمام حقيقة العدم. وأن القصيدة عنده نص مقدس يقدم الجواب عن حيرتنا أمام مجاهل المعاني المحتجبة عن إدراكنا. فهو يملك القدرة وحده، أن يعبر إلى الهناك، وينقل إلينا الجواب، من خلال انزياح اللغة، كي نفهم معنى أن يتبرعم الإنسان فينا.
إن القصيدة، عند مبارك الراجي، هي هو، وقد ساح في تراب الأرض. تدخل عميقا في تربة المعاني، كي تورق أفقا للجمال، ذاك الذي يحقق الطمأنينة أمام قلق الموت. إنه بالقصيدة ينتصر على الزمن، ويسكن في الديمومة، التي لا تكون لغير المتوائمين مع نهر الوجود. هو بذلك، عبر القصيدة، يصبح أكبر من الهيكل، من حيث أنه يصبح جسدا غير فان للمعنى. لهذا ليس مستغربا، أن يكون هو بالذات، من جاءته جائزة البياتي للشعر ذات زمن، وظلت تائهة، تبحث عنه، في مدينته الصويرة، لأنها تجهل له العنوان، فكان ذلك نصا آخر للقصيدة، أن الجائزة هي التي تبحث عن المبدع ولم تستطع الفوز بأن يضع على جيدها قبلة العرفان. كان الشاعر مشغولا بشئ آخر، أعمق وأهم، هو ممارسة الحياة، حتى ولو كانت تيها في يم المعاني، وامتحانا مفتوحا لقياس ترمومتر الإنسان فوق أديم الأرض.
(*) شهادة في حق الشاعر المغربي مبارك الراجي، ابن مدينة الصويرة، التي ستصدر قريبا ضمن ديوانه الجديد.
الكاتب : لحسن العسبي laassibi01@gmail.com - بتاريخ : 01/05/2017