لازال «الإرهاب» مصطلحا ومفهوما وممارسة يثير الكثير من علامات الاستفهام، ليس فقط لأنه محل حرب عالمية، لكن وأيضا لأنه مفهوم ضبابي، لم يتفق صانعوه حتى الآن على مدلول ثابت وجامع له.
ولذلك، ظل «الإرهاب» مفهوما مثيرا للجدل ليس بين السياسيين والأمنيين فحسب، وإنما أيضا بين الدارسين والباحثين، بعد أن غدا ظاهرة عابرة للقارات والثقافات والديانات.
وفي محاولة لتعميق النقاش حول مفهوم «الإرهاب»، والسعي لتحديد مفهوم علمي وموضوعي له، أصدر الباحث التونسي علي العبيدي، كتابا بعنوان: «الإرهاب واستعصاء المفهوم»، عن دار المنتدى للنشر، سعى فيه للبحث عما إذا كان «الإرهاب» يشكل جريمة مستقلة وفق مقاييس القانون الدولي في ظل غياب التعريف العلمي والموضوعي لهذا المصطلح؟
سؤال المفهوم
عمد الباحث في كتابه الذي يغطي 264 صفحة من الحجم المتوسط، إلى تقديم قراءة موسعة في مفهوم «الإرهاب» عبر مدخل منهجي أكد فيه ضرورة الاجتهاد من أجل التوصل إلى تعريف متفق عليه للإرهاب، بالنظر إلى الانعكاسات السالبة لغياب ذلك.
ينقسم الكتاب إلى بابين، ينطلق الأول الذي حمل عنوان: «الإرهاب وسؤال المفهوم»، من أن «الإرهاب» لا يشكل مفهوما بالمعنى العلمي وعلى أن التحول السيميائي الذي شهدته كلمة «إرهاب» كان راديكاليا.
ورأى أن «الإرهاب لا يشكل مفهما نظريا وإن كان، كظاهرة، قابلا للدراسة العلمية»، وقال: «إن المفهوم يفترض أن يحصل اعتراف واتفاق بين أشخاص من مختلف أصقاع العالم، بان ما نسميه إرهابا هو كذلك حقا»، مشيرا إلى «أن العالم مازال ابعد ما يكون على هذه القناعة والفهم المشتركين».
وأشار إلى الإشكاليات التي أثارها توظيف هذا المصطلح في حقول معرفية مختلفة، مؤكدا أن «الإرهاب في أحسن الحالات ليس أكثر من حكم قيمة ويصبح ذا دلالات نسبية ومتغيرة وحتى سوقية وتختلف معانيه حسب المصلحة».
وتحدث الكاتب في ذات الباب المفاهيمي، عن أن «صياغة مفهوم الإرهاب تصطدم على الأقل بعائقين آخرين: الطابع المتنافر والمشتت للظواهر التي يتم تصنيفها تحت عبارة «إرهاب» والرهانات الرمزية والسياسية المرتبطة باستخدام هذه العبارة، وتتعلق بالصراعات المستحكمة حول الشرعية وتشويه مواقف الخصوم وهو ما يؤدي إلى استحالة التوافق حول معنى المفهوم ودلالته».
ووفقا لذلك، فقد «اتجه علم السياسة كما العلوم الاجتماعية، وفق الكاتب، للتركيز لا على «الإرهاب» كظاهرة ولا على فعل «الإرهاب» في حد ذاته بل على من يستخدم «الإرهاب» أي على الخطاب (الإعلامي والسياسي) حول الإرهاب وهو ما يفترض حكما أخلاقيا بالضرورة».
تحول سيميائي راديكالي
وعرض الكتاب لما وصفه بـ التحول السيميائي الراديكالي الذي عرفته عبارة «إرهاب»، منطلقا من مؤسسا ذلك على تعريف للغة بأنها ليست تعبيرا محايدا، وأن القاموس ليس وصفيا فقط، ولكنه بالأساس قانون»، مشيرا إلى أن معاني الكلمات تؤكد الجانب الذي تميل إليه كفة السيطرة، فمن يملك السلطة والسيطرة يملك لا شك حق صياغة وتسويغ معاني الكلمات».
وأضاف: «تشير كلمة إرهاب في الأصل – كما تشكلت من خلال القواميس ـ إلى حكومة الرعب في فرنسا ( نيسان / ابريل 1793- تموز / يوليو 1794 ). ووسعت نفس تلك القواميس ذلك المعنى ليشمل كل منهج للحكم مؤسس على الرعب، ما يؤكد العلاقة بين الإرهاب والدولة: الإرهاب نشأ مع الدولة ومارسته الدولة (من خلال السلطة المشرعة للقوانين أو بدونها) للمحافظة على كيانها».
ووفقا لهذا المعنى يعرف الكاتب الإرهاب بأنه: «أداة مؤسسية تتميز بخاصيتين: تمارس بواسطة الدولة (أو أجهزتها) وتستهدف الجميع دون تمييز غالبا».
إلا أن «هذا المعنى للإرهاب سيتم قبره من خلال القواميس الأوروبية وإعادة تشكيله في الخطاب الغربي حول «الإرهاب».
وقال: «رغم محافظته على أصل التسمية أي استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية، لم يعد الإرهاب يعني نظاما للرعب أو إرهاب دولة كما في أصله السيميائي، إنما صار يعني، مع نهاية القرن التاسع عشر، منهجا للصراع السياسي يقوم على أعمال عنف وترويع (كالاغتيالات والتفجيرات) تعتمده جماعات ثورية أو فوضوية من اليمين واليسار».
ووصف الكاتب هذا التحول في مفهوم الإرهاب بأنه «راديكالي»، على اعتبار أنه «أسس لإخراج إرهاب الدولة من القاموس اللغوي كصنف وأحاله إلى مجرد وضعية تاريخية خاصة إلى خارج التاريخ، واستحدث بدله صنفا آخر هو «إرهاب» الأفراد والجماعات الذي تجسد، ابتداء، مع ظهور الحركتين العدمية والفوضوية. لذلك تحدث بعضهم عن إرهاب سيميائي».
وبعد أن تحدث الكاتب عما أسماه بـ النتائج الخطيرة لهذا التحول، لجهة «تشويه وشيطنة كل مناهضة أو احتجاج للنظام القائم دون تمييز، كما أن الشحنة القوية المقترنة بتهمة الإرهاب اليوم يصعب معها كل نقد خشية تصنيف الباحث أو المراقب وحتى الناشط السياسي أو الحقوقي إلى جانب الموسومين حقا أو باطلا بالإرهاب».
وأكد أن هذا التحول المفاهيمي مكن من تبييض الدولة (مالكة الحق الشرعي في استعمال العنف) من الإرهاب، وإسقاط أية علاقة سببية بين إرهاب الدولة و»إرهاب» الأفراد، وتحميل «الرعاع» (أفرادا ومجموعات) كل الشرور التي يمكن نعتها بـ «الإرهاب»
مفهوم يستبعد الأسباب
وانطلاقا من هذه المقدمات النظرية، أكد الباحث التونسي في الباب الثاني من الكتاب الذي حمل عنوان «الإرهاب الدولي والمدخل القانوني»، أن المقاربة القانونية الشائعة ـ على أهميتها ـ لا تمكن من الإلمام «بالإرهاب» والإرهاب الدولي والحرب عليه (مفهوما ومقاربة) رغم ما بذلته دول ومؤسسات وهيئات وخبراء في العالم للاقتراب منه، خاصة في ظل الثنائية القطبية.
وقال: «لقد مكننا تتبع المدارس الفقهية والتشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية والإقليمية وكذا إسهامات المنظمات الدولية (وخاصة جهازي الجمعية العامة ومجلس الأمن) من التحقق من أن الإرهاب»، إذا كان يشكل جريمة دولية، فانه لا يمثل جريمة مستقلة وفق مقاييس وقواعد القانون الدولي العام والمبادئ العامة التي أقرتها الأمم المتحدة بمعناها الوارد في المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. كما أن المقاربات القطاعية للإرهاب وللأعمال الإرهابية ـ مضافا إليها غياب تعريف منضبط للإرهاب ـ لا تمكن من تحقيق الأهداف المسطرة في استراتيجيات الحرب على «الإرهاب».
وانتهى الكاتب إلى التأكيد على أن المقاربة القانونية ـ على أهميتها ـ لا تمكن من الحسم في تعريف «الإرهاب» لأسباب عديدة ومن بينها أنها لا تطرح سؤال الأسباب الكامنة وراء»الإرهاب» كما توحي بذلك كل الآليات الدولية لمكافحة «الإرهاب».
وشدد على ضرورة «الحسم بوضوح وحيادية في مفهوم الإرهاب والتصدي للأسباب العميقة له، لأنه بغير ذلك ستتم إعادة إنتاج الماسي الإنسانية والانتهاكات الحقوقية والتكاليف المادية التي قادت إليها المقاربات الانفرادية للحرب على «الإرهاب»، وفق تعبير المؤلف.