الثقافي و السياسي قطبان كبيران يلتقيان في بعض المناسبات، ينصهران في بعضهما في مناسبات أخرى، ويتصادمان مع بعضهما في ما تبقى من وقت. يجمعهما كونهما يفكران معا في الحياة العامة لكن من زاويتي نظر مختلفتين، قريبة ومباشرة بالنسبة للسياسي ، بعيدة و شمولية بالنسبة للثقافي.
الثقافي يتوجس من السياسي و السياسي يعمل جاهدا على احتوائه، يطمح إلى «استعماله» في مشروعه الخاص وذلك بالاستفادة أقصى ما يمكن من مصداقيته التاريخية ومن «نظافة» يديه اللتين لم تتلطخا بعد بأوساخ المصالح الضيقة (هذه النظافة موضوع شك بالتأكيد).
عرفت هذه العلاقة دائما مدّا وجزرا… كان فيها طرف يفضل طرح الأسئلة، وطرف آخر يأتي بالأجوبة النهائية.
السياسي يحتاج إلى الثقافي ليعطي لأجوبته مشروعية «كونية» ستساعده في شحن الطاقات من أجل تفعيل هذا المشروع على أرض الواقع. قناعات السياسي قطعية، لكنها سريعة العطب أيضا، في حين تتميز قناعات المثقف بمرونتها وبقدرتها على بلورة وجهة نظر واضحة. لا يتسع وقت السياسي عموما لبلورة وجهة نظر، فقناعاته ترتبط بالأحداث و الوقائع وتتغير بتغيرها (أعداء اليوم في السياسة قد يصبحون أصدقاء الغد).
الحركة المباشرة يقوم بها السياسي، أمّا الحركة غير المباشرة والأكثر تجذّرا في الجسد المجتمعي فيضطلع بها المثقف. كما يمكن لهذه الحركة أن تكون متكاملة و بالتالي تأخذ طريقها في الاتجاه السليم عندما تتضافر جهود السياسي وتأملات المثقف فينجحان معا في تحقيق انسجام ما و لو جزئي في الرؤى، يضع صوب عينيه المصلحة العامة وبأقل قدر من الخسائر.
تتميز الحياة السياسية المغربية عموما والحزبية على وجه الخصوص بظاهرة التحالفات، تحالفات غير قابلة للفهم إضافة إلى زعامات مدى الحياة مع ما يرتبط بذلك من تهالك الأحزاب وصابتها بالترهل السياسي… المشهد السياسي في البلاد أصبح مصدرا للضحك والسخرية وحال الكثير من رجال السياسة أصبح مثيرا للشفقة أكثر من أيّ وقت مضى.بل أرى أنّهم يقدمون مادة غنية لمبدعي النكتة في المواقع التواصلية. الحيلة لم تعد تنطلي على أحد…إنّه العبث ..هو العبث الذي يجعل الكثير من مثقفي المرحلة يقاومونه بالانعزال أو «بالبرودة السياسية» و اللامبالاة.
مثل طفل مصاب بالتوحد، يرفض المثقف الخوض في مشهد فاسد وعوض إدانته أو الإسهام في فضحه يختار الحلّ الأسهل والأكثر تناسبا مع نرجسيته الخاصة. يختار المقاطعة و النظر باشمئزاز إلى السياسي نظرة غضب طبعا لكنها تظل نظرة فقط ليس أقل و لا أكثر.
المؤسسة السياسية يمكن أن تشكل دعما للمؤسسة الثقافية لكن بشرط تحديد المسافة الضرورية بين الحقلين من أجل ضمان استقلالية الحقل الثقافي وحمايته من شهية السياسي المفتوحة دائما للاحتواء وللتسلط، خصوصا إذا علمنا أنّ للسياسي هاجسين أساسيين هما هاجس السلطة وهاجس الحشود كمحركين أساسيين لديناميته ولاستمراريته.
باختصار مفيد: على الطرفين الحرص على احترام علاقات الجوار، وعلى المثقف حماية استقلاليته من السقوط في آنية وظرفية السياسي…للنص الإبداعي مثلا طابع إنساني عام و امتداد في الزمن، في حين يظل النص السياسي أو البيان الحزبي ابن لحظته وينتهي بانتهائها. وياما تراجعت بلاغات عن قناعاتها السابقة و هدأت حماسة شعارات أو اعترتها حرارة معاكسة. هذه القطعية والنهائية جزء من طبيعة اللعبة السياسية عموما لكنها لم تكن أبدا خاصية ثقافية.
الجسد السياسي حاليا في المغرب، مصاب بجميع الأمراض الممكنة التي يمكن أن تصيب المشهد عموما، لهذا السبب ربما يختار المثقف الابتعاد حتى لا تصيبه العدوى وإن كنت بشكل عام، أرى بعض الهيئات والمؤسسات الثقافية قد أصيبت فعلا بالفيروس اللعين
«و اللي عطى الله عطاه». هذا يؤسفني ككاتبة ويضاعف خيبتي… خصوصا أن الثقافة ستكون هي الضحية الأولى لهذا الوضع الموبوء.
أرى، إذن، في الأفق انكماشا أكبر في ردود أفعال الكثير من المثقفين. أرى في الأفق أيضا بعض النسور آكلة الجيف تتجمع باحثة لنفسها عن ما يمكن «نتفه» من هذه الجثة الثقافية المسكينة. أرى ابتعادا متزايدا عن الشأن السياسي، والشأن العمومي.
ربما كان المثقف هو أيضا ذلك الشخص «الجبان» الذي لا يضع يده في «العصيدة»
و ينتظر أن يبرد، وربما كان معتزا بنفسه أكثر من اللازم و به بعض» الترفع» و بعض التعالي عن الشأن السياسي. الظرف السياسي ونظيره الثقافي في حاجة إلى عملية جراحية مستعجلة يساهم فيها المثقف بمعية صديقه اللدود (السياسي) بحيث يعملان معا على إنقاذ هذا الاختيار الحداثي من السكتة الدماغية التي تهدده، عملية مزدوجة يقف بعدها مشهدنا السياسي على قدمين اثنين عوض القدم الواحدة التي ظل يقف عليها، والتي كانت تجعل منه مشهدا آيلا للسقوط باستمرار…
السياسي ينبغي أن ينفتح على الثقافي كي يستمد منه تلك الرؤية العميقة للأشياء وليكمل ما ينقصها من شفافية ومن بعد إنساني… فالأرض التي يتواجدان فوقها أرض مشتركة، و التحرك فوقها ينبغي أن يكون مشتركا. الطبيعة بدورها لا تقبل الفراغ، وفراغ حياتنا السياسية من الفرامل الثقافية كان كارثيا حتى الآن…إنها مسؤولية السياسي طبعا هذا الكائن المصاب بلعنة السرعة والمجبول بالصراع. وهي أيضا مسؤولية المثقف، هذا الكائن المنكفئ على ذاته والمصاب بلعنة البطء والمجبول بالانسحاب..
هل ينبغي أن نتحدث عن المثقف العضوي مرة أخرى؟
ربما. لكني بهذه المناسبة،أحب أن أفتح هذا التقابل بين قطبي الثقافي والسياسي على قطب ثالث ، و الذي أرى أنه قد يخرجنا من هذه الورطة التواصلية في حوار الصم والبكم بكل الأعطاب التي أصيب بها السياسي ولم ينأ عنها الثقافي رغم اعتكافه في برجه العاجي.. أحب أن أثير الانتباه إلى القطب السوسيولوجي وإلى دوره و قدرته في تعبيد المسافة بين الطرفين مع تسليط ما يكفي من الضوء على هذين الحقلين ليستطيعا النظر إلى بعضهما بوضوح أكبر حتى ترتفع أخيرا تلك الغشاوة التاريخية التي أعاقت نظرتهما لبعضهما، وكل الأخطاء التي ارتكبت بسبب ضعف البصر المضاعف هذا.